برتقال يافا ..إبراهيم جابر إبراهيم ( فلسطين )

كُلّما قالَ أبي : " برتقالُ يافــا " ؛ كان يُرسلُ كَـفّيهِ في الهواءِ يرسمُهُ ، أو ينصتُ بخشوعٍ شديدٍ كأنّما يشُمّــهُ، أو يسمعُــه !
..
فكنتُ أغيّرُ الموضوع !
لكنه يظلُّ يحومُ حولَ سيرةِ بيتهِ ؛ كأنّما كان له نصف مملكةٍ .. هناك !
وأظّلُّ أقولُ : يا أبي ؛ البرتقال الفرنسيُّ أحلى ، وأطرى ، أو على الأقلّ البرتقالُ هو البرتقال ؛ فلا تبالغ في الحنين .
فيبكي !
ثُمَّ إن نصف الجالسين لا يعرفون أن أبي كان عَتّالاً في سوق الخضار ، يأكلُ البرتقالَ مرّتينِ في العامِ ، أو مرّةً واحـــدة !
كنتُ أفهمُ هذا البكاء .
لكنني لم أُصَب مِثلهُ بالوطـــن .
.
الضريـــرُ ، الذي كان جارنا ، ظَلَّ يفردُ كل يومٍ صوره مع عسكر الانتداب ، وصورته في مسجد البلدة ، وصوره في موسم النبي صالح ، وصوره في عرسه قبل النكبة بساعتين ، ... يُمرّرُ يدهُ على الصورةِ ويقولُ : هذا أنـــا ، وهذا الذي على يساري الوطن !
.
العجوز التي تحفظُ حتى اليوم خصومتها القديمة مع جارتها القديمة ، وتؤرخُ للهجرةِ بوفاةِ أول أزواجها ، وتضحكُ حين تسردُ تفاصيل خطبتها الرابعة وتقول : فَـشِلَتْ لأن أهل العريس لا يحبون اللاجئين .
كانت تقول لي دائماً : الوطنُ مثلَ الرجال؛ يحبونني أكثر حين أتركُهم وأمضي . 
.
الصبيُّ الذي ولدَ في المنفى وكتبَ شِعراً ركيكاً عن القدسِ ، والفتاة التي رَبّت الخريطة الصغيرةَ عشرينَ عاماً على مُلتقى صدرِها ، والمرأة التي تُلقّنُ أولادها طعمَ الزعتر مع سورة "الإخلاص" ، والجندي الذي يُعلّقُ الأوسمة في المطبخ ويجلسُ قُدّامَها يُدخنُ في "عيد الجلاء" ، وأصحابُ أبي الذين يؤجّلون ثاراتهم ليعيدوها كاملةً للبلاد . كُلُّهم .. كُلُّهم مرضى بالوطن !
..
وأنا ولدٌ بليدٌ ؛ قليلُ الوفــــاء .
لم أصَب مثلهم بالوطن ، ولا أظنُّ أني سأشعرُ بشيءٍ ما لو صادفتُهُ مَرّةً في الطريق .
المرّةُ الوحيدةُ التي افتقدتُهُ فيها ؛ حين كان البرد يقرصُ قدميَّ ليلاً .

وكان ذلكَ يحدُثُ كُلَّ يوم ، ولستّينَ عاماً فقط !

تم عمل هذا الموقع بواسطة