الشاعر يحرق شعره / الشاعر:  فتحي عبد السميع / مصر




الشاعر يحرق شعره

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الشاعر عدو قصيدته، ينبغي أن يهاجمها، ويحرقها. نخطئُ عندما نتحول إلى حراس لقصائدنا، ونعتقلُ الشعر فيها.

بعضنا لا يحتمل فَمَا يمس شِعره بلا ترحاب وحفاوة، يتألم من نظرة تنتقده، ويشتهي فقأ العين التي تمتعض عندما تقع على ترهل هنا، أو شحوب هناك. يريدنا أن نمدحه ونمدح شعره باستمرار، في قلبه زيفٌ ويدافع عن نفسه المعطوبة باسم الشعر.

كلما احتفى الشاعر بنصوصه وتحصن بها، كلما فتح طريقا لهرب الشعر من قلبه، نعم يهرب الشعر عندما يصبح عبْدا، عندما نسجنه في وعي ثابت، وزمن سابق، وتجربة مضت.

يهرب الشعر لأن ذات الشاعر سقطت في نصوصه ولم تخرج منها، الأنا التي عاشت في القصائد السابقة وازدهرت فيها، ليست هي الأنا التي تعيش الآن في زمن مختلف، والشعر الذي باح بسره ذات ليلة، يمتلك أسرارا أخرى لا تنتهي أبدا.

هناك شعراء يكتفون بما عاشوه في سابق حياتهم، وأسفر عن قصائد جيدة تستحق الحفاوة في اعتقادهم، أو اعتقاد القراء، هكذا يُقِيمون في تلك الحفاوة ويتركون الشعر يمضي بعيدا. نفوسهم شحيحة والشعر كريم جدا.

ثمة قصائد لا يظهر ضعفها إلا في ضوء قصائد أقوى، بعضنا يتجنب كتابة القصائد الأقوى حتى لا يظهر ضعفه، أو ـ على الأصح ـ بعضنا يفشل في كتابة القصائد الأفضل، لأنه قرر البقاء في قصائده الأضعف، مكتفيا بالحفاوة التي حققتها. نخون الشعر فعلا عندما نصبح حراسا لقصائدنا، و لا ننشغل بحرقها.

الشاعر يحرق قصيدته عندما يكتب أفضل منها، وعلينا أن نقيَّم الشاعر بعدد النصوص التي حرقها، لا بعدد النصوص التي كتبها، يمكن للشاعر أن يكتب ألف قصيدة دون أن يتقدم خطوة، هي واحدة يعكف على نسخها مرات ومرات.

الشعر المحروق لا يصير رمادا بالضرورة، سوف يجد له محبا يدافع عنه، فهو لم يُكتب من فراغ، وقد يظل ذهبا في عين المتلقي، أما الشاعر نفسه فيعادي شعره ولا يرتاح إلا حين يحرقه.

الشاعر ينشغل طوال الوقت بالنيل من قصائده والاستخفاف بها، والبحث عن ثغراتها، وعيوبها، واكتشاف بؤسها أو نقصانها،  وتخليصها من شوائبها. مهما كانت عظمة تلك القصائد، هناك قصائد أعظم تنتظره، وسوف يضيعها وهو يلهو في الطريق. نحن نهدر أعظم ما نملك ونحن نعبث في الطريق، ونحن نحتفي بما لا بد من حرقه.

لا يفرح الشاعر إلا عندما يحطم الشاعر الذي عاشه في وقت مضى، ويولد شاعرا جديدا أكثر نضجا وجمالا. فالشاعر لا يولد مرة واحدة، الشاعر يولد مرات، وينبغي أن نقيَّم الشاعر بعدد المرات التي ولد فيها.

هذا الشاعر الجديد هو ضالته، قد يخرج من نفسه، وقد يخرج من نفْس أخرى. ولهذا يفرح الشاعر كلما وُلد شاعر جديد في أي مكان، لا يفرق بين قصيدته وقصيدة سواه.

كلما حرَقَتْ قصيدةٌ قصائدي ـ مهما كان مبدعها ـ كلما ربح الشعر، وربحت الحياة، وربحتُ أنا، هكذا يقول الشاعر الحقيقي وهو يستقبل نصوص الآخرين بمحبة وفرح.


جريدة القاهرة العدد (803) الثلاثاء 24/11/2015

تم عمل هذا الموقع بواسطة