بين الكونية والذاتية في هكذا تكلَّم الكَرْكَدَنْ  لرفعت سَلاّم د.أحمدالصغير

 هكذا تكلم الكركدن ديوان شعري جديد لرفعت سلام ، صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية يونيو /حزيران 2012، وجاء في قصيدة شعرية طويلة اتسمت بالملحمية والدرامية والكونية ؛ تحمل الصفحة البيضاء مجموعة من النصوص المتقاطعة التي تتجسد في  المتن والهامش ، والبياض ،وعلامات الترقيم  والموسيقي النصية التي تتخلل النص الكلي في شكل جمل شعرية قصيرة ،ونص معلوماتي قصير وكأنه خارج النصوص المتقاطعة  إضافة إلي ذلك اللعب الشعري بتقنية الخط العربي،  وكأننا أمام مجموعة من المشاهد المختلطة التي يمكن قراءتها منفصلة مرة ومجموعة مرة أخري،  فنحن في حقيقة الأمر أمام غابات نصية مختلفة الأطوار والأشكال معتمدة ومستفيدة في الوقت نفسه من العوالم  الافتراضية  المفتوحة وأعني شبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر واليوت يوب ومحركات بحثية عالمية هذه الكائنات الافتراضية مرصودة علي صفحة الغلاف الخارجي للديوان الذي يمثل مؤشرا دلاليا مهما في قراءة الديوان  فقد جاء الغلاف يحمل صورة  الحيوان الخرافي الكركدن (وحيدالقرن ) و علي جسده الضخم هذه العوالم الكونية المتعددة منها ماهو حقيقي ومنها ماهو افتراضي.،إنّ جل هذه العوالم تتحرك بفاعلية الذات المتحرقة داخل هذه العوالم فهي ذات أسطورية تحمل الماضي بكل آلامه وخروقاته وحواجزه وتحمل الآني الراهن بكل فتوحاته وانهياراته وتداخلاته وإشكالياته الفكرية والفسلفية والجغرافيا والتاريخ وصراعات حضارية تمتد لآلاف السنين، كما تحمل المجموعة (مجموعة النصوص المتقاطعة)أيضا تناصات ديوانية مختلفة تجسد المشروع الشعري لقصيدة سلام والإحالات والمرجعيات التي ذكرها في نصوصه السالفة والقادمة ،هذه النصوص المربكة التي تفكك العوالم المزيفة .    وعليه  فمنذ سبعينيات القرن الفائت ، بدأ  سلاَّم يؤسس لشعرية تتمرد علي الشكل المألوف للدواوين الأخري ، فهو شاعر مُشْكلٌ  يبحث عن الفتنة الكونية المنبعثة من رحم الأرض الأخري  في كل زمان ومكان  ومن ثمَّ فهو يخلق نصه الشعري من خلال عوالم  حية متفاوتة.  هذه العوالم تستظل بالكائنات الحية في عمومها مثل النباتات والحيوانات والطيور والإنسان  والجمادات والنصوص الحية أيضا من التراث العالمي والعربي بخاصة ، مرتكزة نصوصه علي شعرية الأساطير الكونية  التي تلتحم بروح النص والذات الشاعرة في ماء نصي واحد هذا الماء الشعري الذي يكمن في خلايا وأنسجة الوحدات الصرفية الصغيرة في أبدان المفردات العابرة من جيل إلي جيل ومن مرحلة إلي أخري ، ومن ثمَّ فإن جلَّ دواوين سلام لها شكل شعري مائز ،تتخذ من المخاتلة الكونية الشعرية طريقا للتعبير،  وفي ظني أن أفضل الطرق للولوج  في هذه العوالم الشعرية أن تعتمد علي القراءة البصرية مدعومة بقراءة سيمائية تأويلية مغايرة ،  وقد تجلت هذه المغايرة  ـ وقد رصدنا هذه الظواهر الشعرية من قبل في شعر سلام ـ  في بعض أعمال سلام الشعرية ، مثل ديوانه إلي النهار الماضي ،وردة الفوضي الجميلة ، إشراقات رفعت سلام ،وكأنها نهاية الأرض ، حجر يطفو علي الماء ، وأخيرا هكذا تكلم الكركدن ،  ويجئ هذا الديوان ؛ ليفتح أرضا جديدة في شعرية قصيدة النثر العربية ،فيعتمد علي أساطير الحيوانات القديمة  وهنا نذكر أسطورة ( اليونيكورن) Unicorn ـ الحصان وحيد القرن  ذلك الحصان الذي فتن الناس قديما بجماله وقوته وفرائه المطرز بالألوان ، ويمكن أن نعتبرالكركدن هو الخرتيت ( وحيد القرن ) مع الفارق بين الحصان وحيد القرن والكركدن  وحيد القرن  فقد منحنا النص الشعري مجموعة من العبارات المعرفية / المعلوماتية وذلك في قوله : "هو حيوان في جثة الفيل ، خِلْقَتَه  خِلْقَةِ الثور ، إلا أنه أعظم منه ، ذو حافر ، وهو سريع الغضب  ، صادق الحملة ، يخافه ساير الحيوانات . علي رأسه  قرن واحد حاد الرأ س. يعيش سبعماية سنة ، وهيجان شهوته بعد خمسين سنة "      إن الوصف الدقيق للكركدن (الخرتيت) الذي اتخذته جمهوريةالسودان رمزا وطنيا لها بعد الاستقلال قبل أن تتخلي  عنه لاحقا  لما فيه من القوة والصلابة ، مخيفا لجميع الحيوانات ، فهو رمز أسطوري ينتمي إلي الميثولوجيا القديمة .التي تقدس الحيوانات الخرافية . ونلاحظ أن الكركدن يستدعي لغة خاصة به  تناسب الحال التي عليها روحه وكيانه : فتشير المصادر أنه : و بالرغم من مظهره الرائع و جماله فإنه يقاتل بوحشية و عنف شديدين ، و من المستحيل إمساكه خصوصا إذا حوصر لكنه يستجيب بسهولة للمسة أنثى عذراء أي أن الونيكورن  الكركدن ( وحيد القرن ) بشكل عام يرمز للقوة و الجمال الفريدين من نوعهما بالإضافة إلى أنه كان رمزا خاصا بالنبلاء و الأمراء والسلاطين في القرون الوسطى ، كما أظن أن عنوان الديوان جاء بصيغة لغوية تشي بالكثير من الإشارات المهمة في حياتنا الثقافية  فعندما نقول هكذا تكلم الكركدن  تستدعي الذاكرة الثقافية  الكتاب الأشهر في تاريخ الفلسفة الحديثة للفيلسوف الألماني نيتشه  وكتابه هكذا تكلم زرادشت .، .ومن ثم فإن النص الشعري لدي سلام  يعتمد علي إغراء المتلقي النموذج ( المثالي ) للبحث عن علاقة ما مكنونة بوجه أو بآخر بين زرادشت والكركدن أظن أن العلاقة القوية تكمن في أن كلاهما يبحث عن الحقيقة المطلقة في الأكوان المختلفة ولن يجدها  والإصرار المطلق علي البحث هو ماجعل الذات الشاعرة تلتحف بذات أكبر وأضخم وأوقع أثرا وهي ذات الكركدن نفسه لأن الكركدن هو الشعر نفسه الذي يعلن دائما عن عصيانه وتمرده وسيطرته علي سائر الأنفس والمخلوقات الواقعية وغير الواقعية ، حتي أن العوالم الافتراضية  كانت قد احتفت بكائن الأكبر (الشعر) منذ ولادتها علي سطح العالم ، متخذة منه سلاحا في مواجهة الظلام والتشويه اللذين لحقا بالعالم المحيط بنا .فيقول : لست ديناصورا ،لا وألف كلا ؛ لست هولاكو ولا هتلر ولا الحجاج لا موسوليني ولا بينوشيه ، أنا أصل السلالة  والكل ظلال باهته .............أنا اللحظة المارقة الفالتة استعاروا قامتي وسيرتي سلبوني مني ، وارتدوا قناعي الذهبي في غفلة من الزمن .وكل غفلة:محنةكل محنة : ميتةوكل ميتة : صراط وأسنيتكئ نص سلام علي استدعاء شخصيات تاريخية بعينها أمثال هولاكو ،هتلر،الحجاج ،موسوليني، بينوشيه تحمل  هذا الشخصيات في طياتها أحداث الماضي البغيض الذي ارتبط بشخصيات ديكتاتورية أذهبت جمال العالم وبهاءه الأرضي ،فالذات لاتبحث عن فراديس أرضية أو علوية بقدر بحثها عن الخلاص الحقيقي من الكيانات المتجسدة في الكون ؛لتخلق واقعا يفترض فيه الطهر وتنتزعه اللحظات المارقة التي تسكنها الذات ، إن سلطة الذات الشاعرة في هكذا تكلم الكركدن  تتجلي في أصوات متعددة هذه الأصوات التي تتداخل وتتآذر فيما بينها مكونة حوارا درامتيكيا  من خلال تكرارضمير المتكلم (أنا ) أكثر من مرة يومئ إلي أصلها ونسبها وأنها لاتري ظلا إلا ظلها فالكل ظلال باهتة لا ظلال لها ، ، تتحدث الذات عن الآلام القديمة التي يومئ إليها استخدام الفعل الماضي كثيرا  مثل ( استعاروا ، سلبوني ، ارتدوا )  نلاحظ أن الأحداث المتعاقبة في عملية السلب الممنهج والمتطور الذي يجسد صراع الحضارات كما ذكرنا  وتأتي الأحداث أولا بالاستعارة ثم السلب الجسدي والسلخ الروحي ، ثم الارتداء الذي يمزق ويشوه الوجه الحقيقي للذات الأصلية ، إضافة إلي المحنة التي وقعت في غفلة من الزمن الميت  فكل محنة ميتة كما تشير الذات إلي ذلك كثيرا داخل الديوان ،  ويقول في مقطع آخر :  سرقوا مني القاموس والأبجدية  ، عرْوني مني  قبل حلولي ، وسبقوني  إلي المدائن  المنذورة للنار ، إلي القطعان  المنذورة  للسفك  إلي السبي  والهتك  . تتجلي في المقطع الفائت شعرية الجحيم التي ترصدها الذات عبر مشاهد مكتنزة  هذه المشاهد التي تحتاج من المتلقي النموذج الوقوف عليها واستكمال رؤيتها الراسخة في جبينه ،  كما تشمل المشاهد الممحاة مفارقات مختلفة علي مستوي الرؤية والتصوير  مثلا في قوله : إلي الآيات المحكمات  مما لاعين من قبل رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر . : المفارقة تكمن هنا في المشهدين المتناقضين مشهد الجحيم ومشهد الفراديس السماوية  الذي يتجسد من خلال بنية تناصية  تستدعي الحديث القدسي الذي يقوم بإغراء البشر وترغيبهم في جنان الخلد ومتاعها وجمالها الذي لاتستطيع العقول الجمعية علي تخيله ،نحن إذن أمام مشهدين متناقضين ينتميان إلي المفارقة التصويرية التي أصبحت ركنا رئيسا في شعرية الحداثة العربية ،لأنها تمثل وقعا وصدمة إدراكية  لدي المتلقي. ومن ثم فقد اعتمد سلام علي التجريب اللانهائي في الفعل الكتابي لنصوصه ،مما يجعلنا أمام نصوص تحتاج لقراءة مختلفة تجريبية( إن جاز القول ).حتي يتم للمتلقي التواصل مع مثل هذه الكتابات المربكة .....ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.. .أستاذ مساعدالأدب العربي الحديث  ــ كلية الاداب جامعة الوادي الجديد

تم عمل هذا الموقع بواسطة