الاحتفاء بالشاعر المصري : فتحي عبدالسميع




قاطع الطريق الذي صار شاعراً 



أَمشي كأيِّ لِصٍّ تقليدي 

يَنشلُ جَدْيَا مِن حظيرةٍ 

أو دَرَّاجةً مِن شارع.

حَسَّاسٌ ونَبِيه

لو ضَبَطوه متلبِّسًا  

تُمطِرُ الصفعاتُ على قَفَاه 

تقودُهُ الركَلاتُ في موكبٍ 

إلى إلهٍ غَضْبَان. 


كلُّ مَن يَرَاني 

يَشُكُّ في أمري

النَّاسُ حَسَّاسونَ جِدا 

حينَ يَتعلَّقُ الأمرُ بأشيائِهم 

أحداقُ اللصوصِ جارحة

وتُجَاوِبُها على الدوامِ 

نَغزةٌ خفيفةٌ في الجيوب.  


السرقةُ بالإكراهِ 

كانت هدفَ العائلةِ 

وهيَ تُجَهِّزُني للمستقبلِ

أَحمِلُ بندقيةً آلية 

وأَزْرُقُ في قطارٍ أو ميكروباص 

أَشُقُّ الجيوبَ بالمطواةِ 

وألهو بأعينِ المَذعورين.


النَّاسُ يُقَدِّسونَ القَفَا

ما دامَ منصوبا على أكتافِهم. 

لِهذَا نَقطَعُ الطُّرُق  

نلعَبُ بالمطواةِ في الحقائبِ والجيوب 

ونُخرْبِشُ الأرواحَ  

ثَمَّةَ معبوداتٌ كثيرةٌ 

لم تكُنْ لها نِصْفُ هَيْبَتِنا 

حينَ تَنامُ البنادِقُ فوقَ سواعدِنا 

ونَمشي في أتوبيسٍ

أو كوكبٍ يَرتجِف. 


أنا الولدُ الذي فَشلَ في قَطْعِ الطريق 

وصار نَشَّالا 

أصابَني مَسٌّ 

فَصِرتُ أَمشي مُلَثَّمًا بعتمةٍ صغيرة

يَدِي بريئةٌ مِن كلِّ إكراه 

وروحي شغوفةٌ بالسرقة


نِمْتُ كثيرًا فوقَ ظلامٍ 

يُشبِهُ الظلامَ في قاعةِ السينِمَا 

تَهَشَّمَ فجأةً وأصابَني مَسٌ 

يدٌ صَفَعَتني وفَكّـتْ عمامتي

حرََّكْتُ بندقيتي ولم أجِدْ هَدَفا 

رأيتُ نِسمةً بيضاءَ تَزْرُقُ في شجرة

نِسمةٌ ويدُها ثقيلة ؟!

نِسمةٌ وتُعَلِّمُ في القَفَا؟!

تَحرَّكَ غُصْنٌ وطارتِ النسمةُ فارتجفتُ

وَجدتُ هَدَفا ولم أجِد بندقيتي.


لوحٌ زُجَاجي 

سَقَطَ مِن شرفةٍ عاليةٍ 

فوقَ رأسي تمامًا 

أنا الشظايا التي وَقَعتُ عليها

أنا الطريقُ الذي قَطَعتُه دونَ أنْ أدري

الطريقُ الذي أَجهَلُ الآنَ كيف أَقطعُه؟


أَثَرُ الصفعةِ يَكْبُرُ في قَفَاي 

بَيْضةٌ مسلوقةٌ في منتصفِ العُنُق  

ها هِيَ تَتَشَقَّقُ ويَطلُعُ ذيلٌ مِنها 

جسدي كلُّهُ يَتَشَقَّقُ 

ذيولٌ تَتَأَرْجَحُ

طُرُقٌ تَتَّسِعُ في لحْمِي وعِظامي

ومَا مِن طريقٍ يُمكِنُ قَطْعُه. 


عَيْنَايَ تُحيطانِ بي

مِثلَ صفوفٍ مِنَ العَسَاكرِ  

مُرتابٌ مٌريب 

أُذُني تُحَلِّقُ هنا وهناك   

تَحُطُّ على غصنٍ 

وتَلْتَفُّ.


__________


البومة العجوز


ماذا فَعَلوا بي؟

جسدي بلا أحلام

وذاكرتي فارغةٌ 

إلا مِن  تصاويرَ ناعقةٍ

تَحجلُ هنا وهناك.


أتقرفَصُ في فِراشي  

ظهْري للنافذةِ

 وعينايَ على هشيمِ المِرآةِ التي فتكتُ بها

كياني كلُّه شاردٌ

مع الرغبةِ في أن أصيرَ بومةً.


مَن يصدِّقُ

أن هذا الوجهَ المُكرِمشَ

وتلك العظامَ المترهِلةَ

لشابٍ في الثلاثين؟

مَن يصدِّقُ

أن الفِراشَ الذي أتقرفَصُ فيه

  جثةٌ حقيقية.؟!

كان صوتي بَشريا بلا شك

وربما كانت لي حبيبةٌ 

أغنِّي لها في الخلاء 

أو تحتَ  الشبابيك

لا يمكِنُ أن أكونَ ولِدْتُ هكذا

بحنجرةٍ نِصفُها عواء

والآخر أنين.


أذْكُرُ أني كنتُ صَبيا

وأنهم ضَبَطوني أتطلَّعُ أثناءَ سيري

إلى ذراعيَّ المفتوليْن

وصدري الذي يبرزُ مِن الجلباب

أذْكُرُ أنهم حَبَسوني في بنايةٍ مهجورةٍ

وفي الصباح

أوثَقوني في جمّيزةٍ مثلَ لعنةٍ

وجَمَعوا الناسَ في صفٍ طويل

أمَروهم بِصَفْعِي

ثم جرَّدوني مِن ملابسي

تَرَكوني أعودُ إلى الدار

وكفَّايَ بين فخذَي 

يُرْبِكانِ هرولَتي

ولا يَنجحانِ في سَتْرِ عورتي.


لا شكَّ أنني كنتُ صبيا شقيا 

أصعَدُ النخلةَ

وأصطادُ الزنابيرَ

أعتبِرُ السعفةَ فَرَسا

وأرمَحُ بها في الشوارعِ

أغيبُ في الزراعاتِ

كي أُنعِشَ جسدي في حضنِ الترعةِ

وأملأ حِجْرَ أُمِّي

بالثمارِ التي اكتَمَلَ نضجُها

وخَشِي التُّجارُ فسادَها في الطريق

لا شكَّ أنني كنتُ صبيا جميلا

غيرَ أني لا أذْكُرُ شيئا

قبْلَ اشتعالِ النارِ في بيتِنا

وخروجي منها 

بلا أهلٍ ولا ذكريات

مخلوقا مِن الرمادِ الخَشِن

يَرْهبُ النهرَ والعصافير

ولا يَعثرُ على نفسِه إلا هنا

وسْطَ الزوايا التي 

لا يلمسُها النورُ أو الهواء

يُعطي ظهْرَه للنافذةِ

ويفكِّرُ بهدوءٍ

في ارتكابِ الجرائمِ التي دَفَعَ ثمنَها 

ولم يرتكبها.


______________

وَلدٌ على ظهر عقرب 


نَهدمُ بيتَنَا القديمَ 

في الأيدي معاوِلُ 

وفي السيقانِ خوفٌ 

مِن عقربٍ مذعورٍ 

لا بدَّ مِن لدغةِ الوداعِ

تلك عادةُ البيوتِ القديمةِ 

وهي تَختفي.


{}{}{}


مَهْمَا عَبَرْتْنَا السنواتُ 

ثَمَّةَ أشياءُ صغيرةٌ 

لا يَكبُرُ المرءُ عليها. 

أهدِمُ الجدرانَ  

وعيني على دَجاجاتِ أُمِّي 

أحِبُّ تِيجانَها الورديةَ 

وحَلْوقَها التي ترقصُ باستمرارٍ.

تَمنحُني الطمأنينةَ 

وهي تَحجِلُ هنا وهناك. 


{}{}{}


تَرَكَني الخوفُ مِن العفاريتِ 

ولم يَتركْني الخوفُ مِن الشقوقِ 

ثَمَّةَ دبَّة تَخرجُ مِنها  

وقبْلَ أن نَسمعَها جيدا  

تُلقِي جمرتَها في العروقِ وتَختفي 

ما زلتُ أسمَعُ رُقيةَ الرِّفَاعي 

ما زلتُ أسمَعُ شفرتَه

وهي تُشرِّطُ لحْمِي  

لتَطرُدَ دَمًا صار زِنجيَا 

بلمسةٍ واحدةٍ . 


{}{}{}


حَظِّي أفضلُ مِن حَظ شقيقي 

كان رَضيعًا

صراخُه لا يُميِّزُ بين نكشةِ الدجاجةِ 

ولمسةِ العقربِ 

أَرفَعُ المِعولَ عاليا 

وأنتظِرُ عقربا 

حَملَ شقيقي فوقَ ظهْرِه 

وانطلقَ إلى الجبانة.


{}{}{}


منذُ اصطادَ أبي واحدةً 

لم تَعُدْ تُخرِّبُ في نُعاسِي 

لم أعُدْ أستيقِظُ على وقْع أرْجُلِها 

وهيَ تهروِلُ في كرتونةٍ خَفِيِّة. 

فَصَلَ شوكتَها عن ذيلِها 

وتَرَكَها تجولُ على وجهِه ورأسِه 

مَدَّ يدَه  

كَمَا لو كان يَدعوني للعومِ 

فَجفلتُ وخِفتُ لسعةَ الماءِ .

وَضَعَها في علبةِ كبريتٍ 

وأهْدَاهَا لي 

حملتُها بشجاعةٍ 

وجمعتُ الأولادَ حولي 

لكنني لم أجرؤْ أبَدا 

على فتحِ الهديةِ 

ثَمَّةَ أشياءُ صغيرةٌ 

لا نَعرِفُ كيف نَكبُرُ عليها 

مَهْمَا رَصَصْنَا تحت أقدامِنا السنواتِ. 


{}{}{}


رأيتُ الدجاجةَ 

وهي ترقصُ رقصةَ العقربِ .

نقرةٌ خاطِفةٌ في الظَّهْرِ المصفَّحِ 

ويَبتعِدُ المنقارُ سريعا

يرتفِعُ الزُّبَّان 

ولا يَجِدُ حوصلةً يَلسَعُها 

تَحجِلُ الدجاجةُ حَجلتَيْنِ 

ويُغيِّرُ العقربُ اتجاهَه 

ينادي شقا في حائطٍ 

فتجاوبه نقرةٌ أخرى في الظَّهْرِ 

كلَّمَا ظَهَرَ مَنفذٌ 

هبطتْ صخرةٌ مِن ظِلِّ دجاجةِ 

وتَصدَّرتْ أمامَ الفوهةِ .

رأيتُ العقربَ هامِدا 

وفي ظَهْرِه حفرةٌ صغيرةٌ

تكفي لدفنِ عقربٍ

 في عمْرِ شقيقي .


{}{}{}


أَهدِمُ  بيتَنَا القديمَ 

وعيْنِي على مسمارٍ طويلٍ

نغرِسُه في جوفِ الشيشةِ 

كي تَتَنَفَّسَ بارتياحٍ 

سوف أغرِسًه اليومَ في ظَهْرِ عقربٍ 

كي أتنفسَ بارتياحٍ 

ويَفرحَ طفلٌ  في تُربتِه.  

أَتَطلَّعُ  بشماتةٍ إلى  الزُّبَّانِ 

وهو ينقُرُ الحديدَ

يُعجِبُني السُّمُّ الذي يَضيعُ 

أرفَعُ المِسمارَ عاليا 

مبتَسِمًا لأرْجُلِ العقربِ 

وهي تَخمشُ الهواءَ 

سأُفَرِّجُ الناسَ عليهِ 

قبْلَ أنْ أُبَلِّلَه بالكيروسين 

وأُشعِلَ النارَ. 

{}{}{}


البيوتُ القديمةُ 

حتى وهي تَسقُطُ 

لا تُفرِّطُ في عاداتِها 

شماتتي رُدَّتْ إلىَّ 

وضحكتْ جمرةٌ في عروقي 

رأيتُ مِسمارَ الشيشةِ وهو يَبتعِدُ 

تاركا يدي تُمسِكُ الترابَ 

رأيتُ العقربَ وهو يَجري 

ورأيتُ دجاجَ أُمِّي 

يُفسِحُ  الطريقَ. 



تم عمل هذا الموقع بواسطة