19 Jun
19Jun

أجئ إليكم، هذا المساء، لأعترف لكم بسر فريد، اكتشفته مؤخرًا؛ هو أنني لم أولد إلهًا صغيرًا ولا نبيًّا.. ولا شاعرًا يوحي إليه بمكارم الأخلاق والحِكَم. لكنني كنت دائمًا آنذاك الطفل القروي الذي يركض في دروب القرية، فتلسع قدميه الحافيتين- في نهارات الصيف القائظة- شمس الظهيرة، ويغمرهما- في الشتاء- طين ما بعد المطر..

طفل يطوف يسأل الدورب في القرية، و الأشجار وحقول الفول والبرسيم والقمح و القطن، فلا تجيب؛ فيندهش من صمتها ذلك الطفل القروي الذي سيكتشف- فيما بعد- أنه يبحث عن مجهول عصي؛ فيتخبط فيما بين الورقة البيضاء والقلم الرصاص، يحاول اكتشاف الإجابات المستعصية بنفسه، في تلك المرحلة الحرجة، مرحلة الدراسة الإعدادية.

طفل لن يكل أو يمل من علاقته التي اكتشفها بالصدفة بالكتابة ... رفعت سلام

هذا هو رفعت سلام الشاعر الكبير والمترجم الذى أثرى المكتبة العربية بالكثير وغير بوعيه الكثير فى الساحة الثقافية العربية . لقد كان لجروب " نحن المجانين ... شعر" الشرف الكبير بالحوار مع الشاعر الكبير رفعت سلام لمناقشة بعض القضايا المطروحة على الساحة العربية الثقافية وسعداء للغاية أن نقدم للقارىء العربى هذا الحوار الممتع ..

الشاعر الكبير رفعت سلام أحد رواد شعر التفعيلة، وكذلك أحد مؤسسين قصيدة النثر فى مصر .. كيف يرى الشاعر رفعت سلام الفرق بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر ..

انطلقت "قصيدة التفعيلة" باعتبارها خروجًا على "وثنية" البحر الشعري، وبحثًا عن الحرية، بعد أن وصلت القصيدة العمودية إلى نوع من الركود والسكونية والانغلاق. لكنها- بعد ربع قرن من ظهورها، تحولت إلى "وثنية" جديدة (وثنية التفعيلة)، أصابها نفس الركود والسكونية والانغلاق، بعد أن قدمت أصواتها الأساسية اختراقات كبرى في الكتابة الشعرية العربية.. بالرغم من أن الخروج "التفعيلي" كان جزئيًّا. لقد كان خروجًا على "البحر الوزني" (الكلي) إلى "التفعيلة" (الجزئية، باعتبارها اللبنة الأساسية للبحر الشعري).

كان شعراؤها يبحثون عن حرية "جزئية"، وخروج "نسبي" (ربما كان ذلك مشروعًا بعد قرون من ثبات النمط الشعري، إلى حد امتلاكه لـ"قداسة" ساوى بعضهم بينها وبين قداسة "القرآن" في الوعي العام). لكنها- تلك الحرية "الجزئية"- فتحت الباب على ما لم يعرفه الشعر العربي على مدى قرونه السابقة من تحولات مبهرة، وأعمال فريدة للسياب، والبياتي، وصلاح عبدالصبور، وما تلاهم من أصوات فارقة.

فإذا كانت "حرية جزئية" قد أنتجت ما أنتجته من روائع فريدة، فما الذي يمكن أن تنتجه "حرية مطلقة"؟

ليس الأمر مجردًا. فقصيدة التفعيلة انفجرت في عدة بلدان/ ثقافات عربية في نفس الوقت، بعد أن استنفدت القصيدة العمودية نفسها. لكن "قصيدة النثر" انفجرت في بيروت، في غير أوانها "التاريخي"! لحظة إشهار انتصار قصيدة التفعيلة على ثقافة محافظة بأسرها.

ورغم مرور سنوات كثيرة على انتشار قصيدة النثر (وليس على ظهورها)، فما نزال ننتظر ظهور منجزها الباهر، الفريد، وظهور شعرائها الخارجين على السياق، بلا إعادة إنتاج، أو تكرار، أو خضوع للنمطية.

أين تلتقى القصيدتان وأين تفترقان ؟

هو البحث عن الحرية، المؤسس للخروج على كل ما هو تقليدي. والمفارقة تكمن في أن قصيدة "التفعيلة"- بحريتها الجزئية- قد أنجزت اختراقاتها الإبداعية في نحو ربع قرن من أصوات شاهقة، وتجارب فريدة؛ أما قصيدة النثر الراهنة، فما تزال- بعد أكثر من ربع قرن على انتشارها في الساحة العربية- متعثرة في النمطية، والسذاجة، وتقليد بعض النماذج هنا وهناك. ولكننا ننتظر..

هناك تصور لدى البعض أن قصيدة النثر العربية كانت وليدة نكسة 67 ويرى البعض أنها وليدة تأثر غربى وتحديدا فرنسا .. فما رأيكم؟

لا أظن.. فلم تعرف قصيدة النثر الانتشار إلا في التسعينيات. وقبل ذلك، ظلت محصورة في أوساط أدباء ومثقفي بيروت. فآنذاك، كان انتصار قصيدة "التفعيلة" ساحقًا، ماحقًا، على أنصار القصيدة العمودية. فلم تستطع قصيدة النثر الوليدة- في نهاية الستينيات- مواجهة قصيدة التفعيلة في ذروة انتصارها.. وكان لابد من انتظار خلود قصيدة التفعيلة إلى السكونية والتكرار، لتبدأ قصيدة النثر في الصعود التاريخي في التسعينيات..

قصيدة النثر متهمة لدى البعض باتساع فضائها اللا محدود، وبدخول عدد كبير من أدعياء الشعر، وأنها أتاحت الكثير من السرقات للنصوص، وذلك لارتباطها المباشر بالنشر الإلكترونى.. كيف يرى شاعرنا الكبير رفعت سلام هذا؟

بعض هذه الاتهامات لا تخلو منها حركة شعرية. فقد وجهت إلى قصيدة التفعيلة بعض هذه الاتهامات.. ولكن الزمن (ذلك القاضي القاسي) سيحيل إلى النسيان هذه الأشياء "شبه الشعرية"، التي تزعج متابعي قصيدة النثر. فليس أمامنا سوى الصبر الجميل.. لأنها أمراض "تاريخية" تلتصق بالحركات الإبداعية دائمًا.. بلا حاجة لتضخيم أثرها..

ففي الإبداع، لا يبقى سوى مَن استطاع تقديم خصوصيته الإبداعية الفارقة..

شاعرنا الكبير رفعت سلام من المؤكد أنكم تتابعون تطور قصيدة النثر فى الوطن العربى .. هل نستطيع أن نقول إن قصيدة النثر على اتساع الوطن العربى هى مدرسة واحدة جامعة لها سماتها الخاصة، أم أن هناك مجموعة مدارس مختلفة، ولكل منها سمات خاصة بها؟

عدا أصوات قليلة للغاية، فثمة نمطية تهيمن على قصيدة النثر "من المحيط إلى الخليج"، قائمة على "إعادة الإنتاج"، والتكرار، والنسخ، والتشابه، بلا اختراق لآفاق جديدة، واكتشاف لأراض مجهولة، وخروج على السياق، بما يليق بكل هذه الحرية التي يملكها الشاعر الآن.

لقد منحت قصيدة النثر الشاعر حرية مطلقة غير مسبوقة في التاريخ الشعري العربي، فما الذي فعل بها؟ لقد هرب منها إلى سجن نفسه من جديد (بيدي لا بيد عمرو) في قفص النمطية الاستهلاكية، التي تطغى على عشرات الدواوين الصادرة في العواصم والمدن العربية المختلفة..

أخيرا .. إذا كان تطور الشعر حتمية تاريخية .. فبرأيكم ـ كنوع من الاستشراف لما هو قادم ـ إلى أين تتجة قصيدة النثر العربية؟

أظن أنها ستتجه لاكتشاف أفق خاص بها، خارج النمطية السائدة حاليا. فهذا الوضع الراهن، أظن أنه لن يطول أكثر من ذلك.. فالقادم أجمل بكثير..

رفعت سلام

الأحد 8 سبتمبر 2019


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة