موعظة في مقبرة سويدية.  الى/ المَوتى والأَحياء.. نصيف الناصري ( العراق )


ظلال أَشْجار السَرْو الَكثيْفة، تَنْشرُ صَمْتها بَيْن القبور،
وَمرايا العالم مُوْحشة في النَهار، والبَراكين خامدة.
في هذا العَراء الذي يَترَبَّعُ على المَشْهد كلّه،
وَحْدها الحَشَرات المضيئة تَرْتَشف السَديم، وَتطارد النَبضات
القَليلة التي تَتَعذّب بَيْن الزهور.
أَقبورٌ هذه أَم بيوت مُوشاة بخيوط العشْب كثيرة اللهبّ،
تَتنفّس ضَجرة فيها التَنهّدات؟ البَراكين خامدة،
وأَصْوات العطور تُسْمع فَوق سياج
المَقْبرة، مُتجاوبة مَعَ طَنين الحَشرات اللاهثة.
أُحاوِلُ الآن ـ وأَنا أَتَمشَّى بَيْن هَذه القبور،
مُتأَمّلاً شَواهدها القَديمة
والنَظيفة، أَن "أُعلّم الكَلمات أَسْرارها،
لكنَّ هَواء اللغة عَسيْرٌ على
التَنفّس" أُحاوِلُ، ماذا أُحاوِل
أَنا الغَريْب وَسْط هؤلاء الأَموات؟
هَل أَسْتَطيع أَن أَمْنَحهم السلوان، أَنا المُؤْمن بقول ييتس:
"لا عَزاء في القَبْر ولا راحة"؟
ضَجَرْنا مِن أَكاذيب الرياضيات
وَمِن ثمار الفَلْسَفة المُرّة،
وَمِن الوعود بجنَّة ما،
وَمِن أَحْلامنا القَديْمة بأَرْض أَكْثَر نعْمة.
نُريْدُ الهَذيانات، نُريْد الهَلْوَسات
والنَشْوة المُتْرعة بالدموع والغيوم
الخَفيْفَة "، تعدّدت الأَلعاب والسَيْرك واحد".
أَنظرُ في شَواهد القبور حيث ظلال الصَمْت
تَتَمطّى وَحْدها وأَرثي لمَصائرنا:
الكاهن انغمار سيمونسون، مات في "يوتوبوري" على أَيْدي العصابات
النازيّة في 3 /8 / 1942.
ايريك اوسبرنك مات في "مالمو" في 14 / 5 / 1953 مُنْتحراً لأَسْباب نَفْسيّة.
ايفا ياكوبسون ماتت بداء السرطان في 18 / 3 / 1982.
ليف اندرسون مات في 16 / 3 / 1993 على أَثر سماع نكْتة تَخدش الحَياء.
بيا يوهانسون ماتت في 15 / 7 / 1971 في حادث سير.
يان نيلسون مات غرقاً أثناء رحلة الى الفليبين في 2 / 9 / 1994.
مَن يَسْتَطيع أَن يَمْنحنا العَزاء، وسبينوزا يقول:"الله لا يحبّ أحداً"؟
هَل نعكّر مياه الحَياة الصافية بخشْيَتنا مِن المَوت؟
ولكن أَنْتَ أَيّها المُعزّي،
هَل تَسْتَطيع أَن تَمْنحنا، نَحْنُ الذين نَعيْش في ضفاف مُهدّمة وَصَحارى
لا تَعْرف إلاّ الصبّار، وأَكْواخ قَديْمة مُتْربة في أَقصى المُدن، تَعْبث
فيها الجرذان، أَيّاً كُنْت:

البابا
أَو المَلك
أَو الطَبيْب
أَو الجَنرال
أَو زَعيْم قَبيْلة مِن قَبائل الهنود الحُمْر،
أَو أَميْن مَكْتَبة مَجْلس اللوردات،
أَو المُتأَمّل الذي يَرى المَلائكة دائماً،
"يَرى جنود المظلَّات وَيَحْسبهم
مَلائكة". طعْم السَلْوى وَالسَهر؟
لا نريْد موْعظة أَيّها المُعزّي.
نُريْد أَن نُسفّه الكَلائش الأَكاديمية التي تَمْلأ كُتب الدراسة.
لا نريد موْعظة،
لا نريد سَلْوى،
لا نريد عَزاء.
ماذا نَفْعل الآنَ بَعْد أَن طَرَدْنا المَلك
اللامَرئي الذي تَوجّناه مُنْذ بَدء
الخَليْقة؟ أَيْن وَلّت تلْك الأَزْمنة
المَليْئة بسعاة البَريد السَماوي،
والأَحْلام والرجال الذين يَسيْرون على الماء؟


تم عمل هذا الموقع بواسطة