سماء تحت الجِلْد .. دراسة لنصوص " السِرِّيونَ القدماء " لمؤمن سمير  بقلم / د. مجدي أحمد توفيق (مصر )


أحب أن تفرق معي بين صورتين من صور قصيدة النثر : الصورة الأولى تقوم على تفصيلات الحياة اليومية يجمعها الشاعر جمعاً لتمثل حياته ، وإيقاعها ، والتباساتها المحيرة . ولقد راجت هذه الصورة في مصر في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي ، ثم بدأ حضورها يخبو تدريجياً في السنوات الأخيرة من القرن حتى وصلت إلى درجة قريبة من التلاشي الكامل مع وصول القرن إلى منتهاه .

أما الصورة الأخرى فهي الصورة التي أسميها " بقصيدة الوعي " ، واعتقد أن ديوان " السريون القدماء " لمؤمن سمير ينتمي إليها . لا أقصد ، بطبيعة الحال ، أن هذه الصورة من صور قصيدة النثر تستأثر وحدها بتصوير الوعي الإنساني من دون سائر الصور التي عرفها الشعر طوال تاريخه ، وإنما اقصد أن اللغة فيها مستمدة من فيض اللغة داخل وعي الإنسان ، على تقدير أن الإنسان دائم " الكلام " يستوي في هذا أن نسمع له صوتاً ،

أو أن نسمع له " صمتاً " - إذا جاز التعبير .

بعبارة ثانية ، إن قصيدة الوعي تحاول أن تُسمعنا صوت الإنسان الذي لا يسمعه أحد غيره ، لأن حديثه يدور داخله بينه وبين نفسه . ولما كان هذا الحديث الداخلي لا يخلو من الاستطرادات ، أو الحذف ، أو شطط الخيال ،فإن القصيدة تحاول أن تخفي عمليات التنظيم التي تجريها على معطيات الحديث الداخلي ، وتحاول أن تبدو طليقة ، متموجة ، حية ، مثله .. وتعد غيبة الإيقاع العروضي علامة مهمة على محاكاة القصيدة لهذا الصوت الداخلي .

وأنت بغير شك تعرف طرفاً مما قيل عن أدب تيار الوعي ، وعن اقتران هذا المفهوم بفكرة اللاوعي التي  ألح عليها " سيجموند فرويد " وجعلها تُصور مخزناً للمكبوتات ، والمحرمات ، والغرائز الطليقة ، والغرائبيات ، والانفلات من المنطق ، في مقابل الوعي الذي يحكمه منطق العالم الخارجي ويوازن به بين طلاقة اللاوعي ، وصرامة الضمير. ولكن " فرويد " نفسه حين تحدث عما أسماه " ما قبل الشعور " كان قريباً مما نريده الآن من الحديث الداخلي ، بافتراض أن هذا الحديث الداخلي الذي لا يكاد يكتمل لنا شعور واضح به ، ولا نستطيع أن ننفي الشعور به في الوقت نفسه ، هو شئ شبيه بحجرة تلتقي فيها أصوات اللاوعي ، والضمير ، والوعي ، جميعاً ، أو تلتقي أصوات الهو ، والأنا الأعلى ، والأنا ، جميعاً ، بحسب المصطلح الفرويدي . من ثم يمكنك أن ترى في هذا النوع من الشعر مشكلات الضمير ، وهواجس الغريزة ، وغرائبية العلاقات ، بالقدر الذي ترى فيه العلاقات الاجتماعية ، والمشاهد اليومية ، وسرد الأحداث . وأعتقد جازماً أنك تستطيع ، في يسرٍ ، أن تجد الشواهد الدالة على هذا كله متناثرة في ديوان مؤمن سمير " السريون القدماء " ، بغير عونٍ مني .

دعني أشير لك إلى نوعين من النصوص في الديوان ظاهِرَيْن ظهوراً شديداً . وهما مردودان إلى المستويَيْن المتناقضَيْن السابقَيْن اللذَيْن يتداخلان في هذا الصوت الداخلي المتدفق : النوع الأول واضح بسيط قريب من المباشرة ، والنوع الآخر ملئ بالعلاقات الغربية بين مفردات الصور ، وعناصر الحديث ، وأجزاء القول ، إلى درجة يفتقد معها النص الوضوح السريع ، ويحتاج إلى جهد تأويلي حثيث يفسره . ولاشك أنك ستشعر بهذا التباين واضحاً ، ولكني أحب أن أقف عنده قليلاً .

لا غموض هناك في البيانَيْن اللذَيْن أصدرهما الشاعر ضمن الديوان ، فهما يسعيان إلى أن يمثلا منظوراً للشعر ورَدَّاً على خصومه :

" نحن السريون

اللذين صمدوا كل هذا الوقت

أمام جحافل الآباء

والجيران

والحبيبات ومأموري الأقسام

والأمهات ... "

فأصبح الشاعر يدرج نفسه في طائفة يسميها " السريين " ، وهم كذلك لأنهم يعيشون في ذواتهم ، مسترسلين مع أصواتهم الداخلية ، لا يتماهون مع الأصوات الخارجية ، الأصوات الآمرة ، أصوات الآباء ، ومأموري الأقسام ، والأمهات ، والأصوات المقتحمة للذات ، أصوات الجيران والحبيبات ، فهم – السريين- لا يعلقون أملاً على العالم ، يشعرون باليأس منه كله :

" نهنئكم بالزمن الجديد

الذي سيضاف حتماً

إلى سجلات فخارنا الذهبية .

ونعدكم

بأننا من سيبقى حتى نهاية الحفل

دون أن يفقد حماسه لسماعكم

وأنتم تعلنون أننا مكشوفون تماماً

منذ بداية الرحلة "

طبعاً أنت تلاحظ في النص صوتاً صدامياً عنيفاً يواجه الواقع الخارجي ويسخر منه - والسخرية في الديوان قريبة دوماً من المواضع التي يلتقي فيها النص مع الواقع الخارجي - ، وتلاحظ ، كذلك ، أن اللغة أقرب ما تكون إلى المباشرة الصريحة . والبيان الثاني ، أو " خطاب أخير " ، أكثر عنفاً وصداماً ومباشرة .

" هل يا ترى

ما في دماغي مضبوط ؟

فعلها الملعون

وتهجى لحظات البهجة

بين ضلوعه

ثم ترك لي الباب وفوقه ابتسامة "

في ضوء التفسير الذي أقدمه لك بشان كلمة " السريين " ستدرك في يسر أن الإشارة إلى ما في الدماغ من أفكار، وأن التهجي بين الضلوع ، متصلان بالمنطقة اللغوية التي نذكرها ، حيث تتدفق اللغة الداخلية ، ويغدو سماعها هو انفتاح " الباب " ، أعني باب النفس لأجل سماع الصوت الداخلي .

" أنا من يسير هادئا بعد انتهاء الوردية

ويدخن سيجارة سوبر

لينسى فشله الدائم

قبل النوم ،

في أن يخلع الزحام

عن عينيه

وقلبه .."

ببساطة شديدة يستحضر الشاعر العالم ، وتمتلئ عيناه ، ويمتلئ قلبه ، بزحام الحياة من حوله . والمقتبس كله يصور هذه الحالة التي تعيش فيها الذات داخل نفسها ، وإن يكن إصغاؤها المستمر لنفسها لا يمنعها من مباشرة الحياة ، ذلك أن الحياة بكل زحامها تملأ الذات ، فهي قد أصبحت داخلها لا خارجها ، والذات في الوقت نفسه تعمل وتمشي في الشوارع ، وتخالط الزحام ، وهذا معناه أن الإصغاء المستمر للصوت الداخلي ليس انسحاباً من العالم ، وليس عزلة ، بالمعنى التقليدي للعزلة ، بمعنى الفرار إلى مكان ناء ، أو مغلق ، ولا يبق من العزلة سوى هذا التمركز في الداخل على الدوام .

" سوف أجأر أخيراً

بكل المخبوء

وقد أركب ( حنطوراً ) ذهبياً

أنتظر المساء كل يوم

لأطير به ، إن لم تبتعدوا يا ثرثارون

فوق نظراتكم .

يدي ، تلك المتصلبة القديمة

تعبت من كل هذه الإشارات

لذلك سأنيمها

في أقرب مكان

للتاريخ السري .. "

لن يفوتك الرغبة في التصريح بالمخبوء ، أو المكبوت . وستلاحظ أن المساء وقت مناسب لكي يخلو المرء  إلى نفسه ، ويواجه في صراحة حقائقها ويحلم  ، فيركب ( حنطوراً ) ، أو يطير . وفي ذلك الوقت سيتحرر من ثرثرة الناس ومن نظراتهم . وعلى الرغم من اليد دائمة الإشارة والحركة والعمل ، فهي متصلبة تصلباً قديماً ،  لأن حركتها علامة مخالطة الواقع الخارجي ، ومتعة الإصغاء إلى المخبوء تقتضي انسحاباً ذهنياً من هذا الواقع الخارجي ، ودخولاً جاداً إلى عالم الإفصاح ، عالم الحلم ، عالم التاريخ السري .

ويعد الأصدقاء الشخصيون : محمد ربيع ، هشام حسني ، إيهاب بيومي ، علامة واضحة على أن العزلة بمعناها التقليدي لا تفسر الموقف في الديوان .. فهم يحتلون مساحة غير قليلة من الديوان ، وهو يحاول أن يقرأ شخصياتهم بوصفهم جزءاً من العالم الداخلي لا الخارجي ، وعلامات على الموقف نفسه ، الذات عندما تحيا وتعمل ويكون لها أصدقاء وتبقى مع هذا مستغرقة في تاريخها السري .

وفي ضوء هذا المفهوم – أعني حديث الذات المتدفق داخل وعيها – تتكون النصوص الأخرى – أو النوع الثاني من النصوص - التي يمكن وصفها بأنها أعقد أو بأنها غامضة ، في ظاهرها على الأقل . هي تتصاعد بمفهوم الحديث الداخلي فتولد منه انشقاقات الذات ، والصور الفانتازية التي تلتقي مع صور الغرائز والحواس في هذا المستوى من الوعي ، وتشكل منها ، على وجه العموم ، قراءة باطنية للعالم .

أنظر معي ، على سبيل المثال ، إلى مطلع نص " للطيبين .. أصحاب الشيزوفرينيا " ، وقد علمت أن الشيزوفرينيا تشير إلى انشقاقات الذات على نحو طبيعي يولد منها ذواتاً عدة متصارعة ومتحاورة :

" بإخلاص كامل

أفتش عنه داخلي

ليخرج ويتواجها

الطيب

والقاتل  "

فتجد في هذا المطلع الذات وقد انشطرت إلى اثنتين ، وبينهما تناقض أخلاقي يحيل إلى مشكلات الضمير التي أومأنا إليها من قبل . وسيظل هذا القاتل يبعث ، طوال اليوم ، رسله أو أشباحه أو هواجسه ، الجميع ، وتجمعهم أحلام ثورية وهي تقابل روح القاتل التي تغير ضحيتها كل أسبوع ، ومع هذا التقابل بين الطيب والقاتل ينشأ تقابل آخر بين الروح والجسد :

" الجسد غبي وسطحي

يليق به السيوف المملوكية .

والروح رائعة وخفيفة

لها السكاكين الرقيقة .

هل ذقتم دماء الروح ؟

شئ أسطوري

هذه قدم الروح ، عين الروح ، أذن الروح

قلب الروح ، الأغاني التي رقصت عليها الروح

والبنات اللاتي ضحكت لهن الروح "

والقتل حاضر في الجانبين جميعاً : أما الجسد فيقتل بالسيوف المملوكية ، لأنه غبي وسطحي ، وأما الروح فتُقتل بالسكاكين الرقيقة لأنها رائعة وخفيفة . وبطبيعة الحال القتل هنا مجازي ، أو ، حسبما قال ، شئ أسطوري ، فانتازي .. إنه الوصول بالروح إلى منتهى خيالها وأحلامها وانطلاقها .

وتبدأ " سماء صالحة " ( = من الصلاح ، لا الصلاحية ) بهذا المقطع  :

" الرجل القديم

ضاق بجثته

جرب أن يكون ثورياً

، كقلبه القديم .

فحملها ببساطة

وألقاها جوار( شلة) القطط .

القطط استشارت

تاريخها الموصوم بالحواس .. "

تذكر الرجل الذي فتش عنه من قبل ليخرج ويتواجه مع الطيب . هاهو ذا ثانية يضيق بمحبسه في الجسد ، فيجرب أن يكون حالماً ، يجرب أن يغير العالم ، أو أن يكون ثورياً ، وهو بهذا ينفصل عن عالم الجسد ، عالم الغرائز.. عالم الحواس . وتنتهي قصة هذه المحاولة بعد يومين ، حين انتهى الرجل القديم – واحد من السريين القدماء - إلى أن يسترسل في البكاء ، بعيداً عن جثته التي كانت تبحث بصدق عن البهجة نفسها ثانية . وستبدو لك الصور غريبة : رجل قديم ، ضاق بجثته ، فألقاها بجوار القطط ، التي استشارت تاريخها الموصوم بالحواس . هي غريبة حقاً إذا تلقيتها على ظاهرها ، أما إذا أدركت ما وراءها من دلالات ، وعرفت شفرتها ، فإنها تعطيك معناها ، وتنكشف  لك .

واقرأ هذه القطعة :

" في الأعلى

يقف السيد شبح

يرمي سجادته

ليلون الدرجات ..

الألوان المخلوطة جيداً

رغم أنها إيجابية ومُبَادِئَة

ولها في مناهج التاريخ

عشر صفحاتٍ ، ( بحالها )

: تحمل داخلها

( فيروس ) عدم الثقة .

الألوان تقتل لهاث الخطوات

وتمحو عرق الرغبة .

حتى الكذبات الطريفة

لمحصل النور

تدوس عليها

بنفس الفرشاة

التي خبأتها من عامل الدهان "

هو يقف " في الأعلى " لأن المشهد كله على سلم ، هو سلم الخيال الذي تصعد درجاته الذات ، وسيحتاج المشهد ، فيما بعد إلى كاميرا تخص مراهق الدور الثالث ، أو العقد الثالث من العمر ، ليكون المشهد في النهاية ، متصلاً بالوقت ، بلحظة العمر المعيشة ، وآفاق الخيال المتاحة فيها . وهو ، كذلك ، شبح ، لأنه صورة ثانية من الرجل القديم الذي تكرر ذكره ، أو هو صورة من السريين القدماء . لهذا هو يملك سجادة يمكن أن نراها صورة من البساط السحري ، لهذا هي قريبة من عالم الألوان التي أُجيدَ صنعها ، وهي ألوان إيجابية ، لها القدرة على المبادرة ، ولها تاريخ عريق في نفس صاحبها وإن تكن في الوقت نفسه مُحَمَّلة ( بفيروس ) عدم الثقة ، لأنها تعرف أنها سحرية ، أو أنها سرية ، أو أنها خيالية ، لا تتحقق في واقع الحياة ، أسفل السلم . ولعل كلمة ( بحالها ) لم تفت عليك . هي كلمة ذات وقع عامي ، إذا تأملتها قليلاً ستكتشف فيها نبرة سخرية ملموسة ، وحين تفتش في الديوان عن المواضع التي استخدم فيها الشاعر مفردات محملة بوقع عامي ستجدها كلها ، فيما أزعم ، فيها نبرة سخرية . وستساعدك نبرة السخرية حين تصغي إليها في أن تكتشف سخرية الذات من نفسها ، وستجد هذه السخرية جزءاً من انشطارات الذات ، ومن جدلها مع نفسها .

أنظر إلى الأثر الذي تحدثه الألوان . إنها تقتل لهاث الخطوات بمعنى أنها تحرر النفس من الحياة اللاهثة المضطربة . وهي تمحو عرق الرغبة ، بمعنى أنها تحرر النفس من آلام الرغبة المكتوبة ، وصعوبات التحقق ، إذ تحققها ، جميعاً ، في عالمها . ذلك أنها ألوان مختلفة عن الألوان التي يستخدمها عامل الدهانات . هي ألوان تستطيع أن تمحو أكاذيب الحياة ، لا أستثني الأكاذيب الطريفة لمحصل النور ، وبطبيعة الحال هو محصل نور لأن المشهد كله يدور في ظلام خاص ، داخلي ، لا في النور الخارجي الذي لابد من أن ندفع ثمنه . نعم : لابد أن ندفع ثمن كل شئ ، إلا هذه الألوان السحرية ، فهي مجانية تماماً ، ورائعة تماماً .

يقول الديوان لهشام حسني :

" من صمت مهيب

خلقك الرب

فتناسيت

انك ما تزال تبتغي العراء

على شاطئ

أو في

حانة "

ببساطة ، الديوان يقرأ شخصية حية في ضوء النموذج الباطني الأساسي عينه . هو صورة من ذات تعيش صمتاً مهيباً ، بفطرة خلق الله ، أي متجردة من شواغل الحياة التي ابتكرها الناس في ثرثراتهم المستمرة ، لهذا هو يأوي إلى الوحدة ، يلتمسها في العراء ، أو على شاطئ ، أو في حانة ، حيث يتحرر من الصخب ، ويلوذ بكائنات الصمت الملونة ، حتى يحذره الشاعر في المقطع التالي ، من أنه ، في العراء ، في قلب الوحدة ، في قلب الصمت ، سوف يدق جرس الهاتف ، بمعنى أنه سيضطر إلى مواصلة المضي في الزحام ثانية ، وللأسف ، قريباً . ذلك أنه في عراء الوحدة لا ينفصل عن الحياة ، أو عن الواقع ، لأن كائنات الصمت الملونة تمثل تحولات ثورية تخييلية لكائنات الصخب المعيش . بعبارة ثانية ، إن سماء الوعي مكانها الأرض :

" بيتك في الدور الثاني

لكن سماءك

أسفل  "

فالسماء في الحقيقة تحت جلودنا :

" السيدة هي الأذكى

لأن الذكريات في جيبها السري .

السيد سوف يخرج غداً

إلى الكورنيش

وهو يلبس قميصه المشجَّر

الذي يخفيه تحت جلده "

ولما كانت السيد والسيدة يمثلان البشر جميعاً، صح القول إن ذكرياتنا ، وحيويتنا ، وسمواتنا ، جميعاً ، تحت   جلودنا .

فلننظر في أنفسنا قليلاً .

* الدراسة الملحقة بديوان " السريون القدماء " ، نشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب 2003

تم عمل هذا الموقع بواسطة