صخب الشعري فيما وراء التسجيلي واليومي.. قراءة فى ديوان "الوفاة السابعة لصانع الأحلام" لـ كريم عبد السلام  -------------------------------  قراءة لـ: د.محمد سمير عبد السلام ( مصر )


يوحي اليومي، والمتكرر - في خطاب كريم عبد السلام الشعري – باتساع هامش العلامات المجازية، والصور، والأطياف، والحكايات، وأخيلة اليقظة المؤولة للذات، والفضاء، والحدث الذي يبدو في حالة من النشوء الاستعاري المتجدد في استبدالات الكتابة الكثيفة؛ فمن داخل صمت المتكلم إزاء الحدث اليومي الهامشي، نعاين عالما سيميائيا تصويريا آخر مؤولا للسابق من داخل الفضاء نفسه؛ وكأن حالة الصمت الكثيفة تنطوي على صخب سردي وشعري قيد التشكل بين عالم المتكلم الداخلي، والتكوين الظاهراتي للواقع الذي يمكن تفكيكه في مجموعة من الفضاءات الجزئية اللامركزية المتداخلة التي تنبع من الصمت، والتكرار الذي يوحي أيضا بالنشوء المجازي للصوت، والعلامات الواقعية، وصور الآخر / الآخرين التي تجمع أحيانا بين دلالتي الهامشية، والحضور المتعالي العابر للحدود الزمكانية؛ إذ نعاين تشكيل التحولات والتشبيهات الأسطورية المؤجلة في بنى الذات، والآخر، والفضاء التي تبدو واقعية في حضورها السردي التصويري؛ فقد يحاور الصوت أطياف الانتحار الخفية في هوامش الواقع، وإيماءاته، وفي العالم الداخلي للمرأة، أو يتحدث بصوت متخيل للفراغ الطيفي للأشياء الساكنة؛ ليؤول دورات الموت ونشوئه التصويري الملتبس بالحياة.

وتبدو مثل هذه الثيمات في ديوان كريم عبد السلام المعنون بـ" الوفاة السابعة لصانع الأحلام "؛ وقد صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في نهاية 2019؛ ويؤكد العمل الثراء العلاماتي المجازي لدورات الحياة اليومية المتكررة التي توحي بدلالات الصمت، والبساطة، والسخرية من بنيتها التكرارية الخاصة في الوقت نفسه؛ فعتبة العنوان مثلا تشير إلى البنية التكرارية المؤجلة لصوت صانع الأحلام في حياة الأطياف، والأشياء الصغيرة فيما وراء الواقع، والتباس تلك الحياة العابرة للبنى الزمكانية بالغياب المحتمل، أو بالولادة المتجددة في الاستبدالات السردية الدائرية في النسق السيميائي للقصيدة.
يؤول المتكلم حالة الوجود الصامت النسبي المعلق بين الغرفة، والواقع في علامة النافذة التي تشير إلى الحرية، والغياب في الفضاء الاستعاري للجدران في نص عندما انتشرت الحواجز؛ فالمتكلم يسجل المشهد اليومي الواقعي الكثيف من داخل هوامشه المجازية العميقة، وتحولاته التصويرية السردية الصاخبة؛ يقول:
"البشر الطيور، تجدهم دائما واقفين على أفاريز بيوتهم القديمة / وهم يتطلعون إلى الدافئ / إلى المساحات المظلمة / أو تلك المضيئة التي يحتلها غرباء يتحدثون بالإشارة/ خوفا من الحواجز في الهواء". ص 16.
يكمن التحول إلى صورة الطائر المجازي في بنية الذات، والآخر / الآخرين؛ في حضورهم اليومي البسيط نفسه، وفي الاستبدالات الصاخبة للعلامة ضمن اللقطة التسجيلية نفسها في حضورها الشعري الآخر، وتجلياته بين الوعي، والواقع؛ ومثلما كان التحول إلى صورة الطائر معلقا بين حالتي الطيران، والعودة، تجلت علامة الحواجز بصورة طيفية، وآلية في آن؛ وكأنها ملتبسة بالاختفاء، وتقع بين الداخل، والخارج.
ويستنزف المتكلم بنية الفضاء الذي يحوي صور البشر الصامتة، وصخب التحول إلى طيور في حالة من الانتظار بين النور، والعتمة، والجدران، وأخيلة الهواء؛ وكأن الفضاء المضاعف يحيلنا إلى التحول العلاماتي، ونشوئه الشعري في تكوينه ما بعد الحداثي الذي يجمع بين الصورة، وبنية الشيء في آن.
ويعيد المتكلم تخييل الأحلام، وتجسداتها التصويرية الشيئية في دورة متجددة من النشوء اليومي في نص وأنا ذاهب إلى العمل؛ إذ يحتفي الخطاب الشعري بالشخصيات الهامشية، وينسج دورات الحلم المجازية من داخل حالة التجدد الصامت الدائري للألم، والانبعاث المجازي في التكوين التصويري الشيئي للحلم؛ فالصوت يعاين تجدد حضوره من داخل الانبعاث المتناقض للألم، والحياة المجازية الداخلية للهامشي في الوعي، وفي الفضاء السيميائي للغرفة؛ يقول:
"وهكذا أوزع كل أحلامي / وأنا ذاهب إلى العمل / لكني عندما أعود للبيت / أجد أحلامي تنام على عتبة بابي / بملابس ممزقة / وجروح في الوجه / ودموع جامدة في عيونها / فأحملها برفق إلى الداخل / وأعيد إليها روحها الأولى / حتى الصباح التالي". ص 9، 10.
إن التكوين الفني التصويري للحلم يحمل آثار الآخر، وذاكرته، وصيرورتها السردية الداخلية الكثيفة المتحولة باتجاه الانبعاث، والصرخة الأولى المتجددة في فضاء الغرفة الذي يشبه فضاء الشارع، ويستنزفه في فعل استشراف دورة أخرى للوجود اليومي المجازي الذي يعاين فيه المتكلم صور الآخرين في تأملات تشبه التأملات التي كانت تروى في التراث الثقافي عن شخصية بوذا، ووهج البحث الأول عن حالة التأمل المتجاوزة للألم، ولكن الصوت الشعري – في خطاب كريم عبد السلام – يؤسس لحياة تصويرية فنية للألم الذي يذوب في بكارة البهجة اليومية المتجددة في الهوامش الدلالية للصمت الميكانيكي الظاهر الذي ينطوي على تعالي الهامشي، وحياته الجمالية الأخرى.
ويحيلنا المتكلم إلى تكرار لحظات التشكيل الاستعاري للكينونة في التباسها بالفراغ، وحياة الأشياء الصغيرة في نص الوفاة السابعة لصانع الأحلام ؛ فالمتكلم يسخر من بنى الموت، والزمكانية، والحضور التاريخي للذات، ويتجاوز صمت الأشياء في حيواتها الطيفية الصغيرة التي تومئ إلى الفراغ، وتتجاوزه في صمتها الصاخب، ووجودها الحلمي على هامش الواقع؛ فدائما ما يمنح المتكلم ذلك الوجود الاستعاري الآخر حضورا تجريبيا موازيا للفضاء الواقعي الذي يبدو إستاتيكيا أحيانا، ويذوب صانع الأحلام هنا في تلك الحيوات الجزئية الصغيرة الملتبسة بالفراغ، وآثار الفن، وشخصياته، وشعرية التفاصيل الصغيرة التي تسخر من المرجعيات المركزية حول الموت، والحياة، والصمت؛ يقول:
"أنا القميص الملقى على الأريكة / والطبق الفارغ من اللمسة / ماذا يشبه الموت إذن / ماذا يكون، وما الألم الذي يصاحبه؟ / أنا الظلام الخفيف حول الشبابيك / والمروحة المعطلة في الصيف / التراب الذي يتسلل بين الشقوق، والفتحات، ويغمر الصور المعلقة / على الحائط ..". ص 21.
يحيلنا الخطاب الشعري إلى وفرة استخدام ضمير المتكلم في سياق تفسيري للكينونة، وفي حياة الفراغ الأخرى الكامنة في التفاصيل، وفي بلاغة الأشياء الصغيرة، والهامشية؛ وكأن الذات تقع بين الحياة الخفية للأثر / الشيء؛ مثل القميص، والمروحة، والتراب، والظلام، وتأجيل مركزية الهوية في أخيلة الموت، والفراغ الكامنة في استبدالات العلامة، والصوت؛ ومن ثم السخرية من مركزية البدايات، أو النهايات الحاسمة؛ وهو ما يذكرنا بالوجود الملتبس بالاحتجاب في تصور الكينونة عند هيدجر؛ وإن اتسع التشكيل السيميائي المجازي للصوت هنا؛ ليتجاوز الحدود الزمكانية من داخل صمت المشهد، وحياة الأشياء الكثيفة التي تحمل بداخلها أصوات الماضي، وصخبه، وموته المحتمل، والمؤجل، وفراغاته الإبداعية الملتبسة بالنشوء المتجدد للأصوات، وأعمال الفن، وتداخلاتها الطيفية في الفضاء التجريبي؛ يقول:
"أنا حزمة الأوراق المنسية التي تحمل أجمل القصائد / أنا أحرفها المتشابكة / والمسافات المتفاوتة بين السطور ... / كنت حاضرا هنا منذ مئات السنين / على نفس الأريكة / ومع نفس السكون الذي لا يحمل طمأنينة". ص 23.
يستعيد المتكلم أصوات الماضي، وصمته، وآلامه فيما وراء الفضاء الآني نفسه؛ وكأن البنية التكرارية للصوت تحتمل حضورا آخر يستشرف الجماليات التأويلية للفراغ، وصخب السكون الذي يفكك آلية الصمت في لحظة الحضور، ويكشف عن حياة الأثر الأخرى التي تشبه علامة النجوم في مراوحاتها النصية بين المحو، والانبعاث؛ ففجوات القصيدة مثلا تحيلنا إلى وفرة العلامات التمثيلية للضمير المتكلم، وإمكانية تشكلها في تداعيات النص في المستقبل، وفي الأطياف الكامنة في التفاصيل الصغيرة؛ مثل الكتب، والأريكة الفارغة التي يستبدل فراغها الخاص بتأملات أصوات الماضي، وآلامها، وأغانيها المتجددة الكثيفة في صوت المتكلم.
وتذوب الحدود بين شخصيات الفن، والحكايات، والأساطير في خطاب المتكلم، وصيرورة الذات، والآخر / الآخرين في نوع من المحاكاة الساخرة؛ وهو ملمح ما بعد حداثي في ديوان كريم عبد السلام ؛ فقد تتصل شخصيات النصوص، وعلاماتها بعوالم بيكيت، وشخصية آلباتشينو في فيلم محامي الشيطان، وبوذا، والأطياف المرحة الملتبسة بالموت المؤجل في فضاء واقعي، وسينمائي معا.
ويذكرنا ذوبان الحواجز بين شخصيات الفن، وتاريخه في نصوص كريم عبد السلام بتصور أندريه مالرو عن اتساع المعارض الخيالية الحديثة خارج الحوائط، والحدود، والأزمنة، والاتجاهات الفنية؛ إذ يرى في كتابه أصوات الصمت أن متاحف الفن الحديثة لا تكتفي بأن تحرر العمل الفني من سياقه الأصلي، وإنما قد تضعه في مواجهة مع تيارات فنية معارضة له في الاتجاه، وفي نوع من التحدي الجمالي، والتحولات البنائية والشكلية الممكنة.
(Read, Andre Malroux, The Voices of Silence, Translated by Stuart Gilbert, Princeton University Press, 1987, p. 14)
يعبر مالرو – إذا – عن حالات التجاور، والتداخل، والتحول السيميائي للصور في السياق العولمي الحديث للفن؛ وسنجد أن الطيف المجازي الكثيف مثلا في قصيدة أشعر بك ل كريم عبد السلام ، يستعيد مدلول الطيف بصورة جمالية تحويلية للعلامة؛ ولكن في سياق تأويلي لحالة اتصال الوعي بما وراء الواقع الفيزيقي غير المركزي في النص؛ وهو ملمح ما بعد حداثي أيضا يوحي بالتداخل بين الفن، والواقع في المشهد اليومي، وفي الاتصال الصامت بالآخر؛ يقول:
"حولنا / كانت حلقة الأشباح متوترة، تنتظر حدثا ما / بعضهم يشير لي بسكاكين صغيرة تشير لمعتها أنها حادة جدا / ومنهم من يمسك بمشانق ملونة / تبدو جذابة، وتعطي انطباعا يخالف ما شاع عن الألم الذي تسببه / حين تتعلق منها في لحظة يأس". ص 18.
يحيلنا الخطاب الشعري للمتكلم إلى شخصيات افتراضية مجازية توحي بالتناقض النيتشوي بين البهجة، والغياب، وتعيد قراءة أطياف الأدب؛ مثل شبح بانكو في مكبث لشكسبير؛ فالذات تقع في حالة من الإغواء إزاء صورة المياه، والأطياف التي توحي بالموت الصاخب المؤجل في سياق الاتصال الروحي بالمرأة في الأوبرا؛ وكأن أطياف الفن تتجاوز الأطر والحوائط، وتقع بين الوعي، والفضاء الواقعي.
وقد يعيد المتكلم حالة الانفصال العبثي المحتملة بين الذات، والآخر في نص من أنت؛ إذ يراوح بين مدلولي التواصل اليومي المتكرر مع المرأة في الذاكرة، ولحظة الصمت، أو التوقف، أو الانفصال العبثي في خطابها الذي يعيد طرح السؤال الفلسفي حول آخرية الآخر في بكارته الأولى؛ يقول:
"بعد عشر سنوات من العناق الحار / من الشجارات، والنزهات، والمكالمات من بلاد بعيدة / من الإفطار معا في الشرفة، والعشاء المطبوخ في البيت.../ استيقظت المرأة على سريري / لتسألني / من أنت؟ / وماذا تعمل هنا؟". ص40.
إن خطاب المرأة يفكك حالة التكرار من داخل هوامشه الدلالية التي توحي بالانفصال العبثي؛ وكأنها تستعيد حالة الصمت بين البطلة وزوجها ويلي في مسرحية الأيام السعيدة لبيكيت؛ إذ تقع الذاكرة، والتفاصيل اليومية في تعارض بنائي مع تصاعد حالة الانفصال في خطاب المرأة، ووضعها التشكيلي في الغرفة؛ وتبدو حدة التعارض العبثي – في نص كريم عبد السلام – في علامة السرير الذي يؤكد الاتصال، ويؤجل بنيته دائما في سؤال المرأة الذي يؤكد طفرة التحول في بنية التكرار.
وتومئ الصيرورة السردية في كتابة كريم عبد السلام إلى التجزؤ النسبي ما بعد الحداثي للواقع، وتجاوزه للفضاء، والشخصية، والحدث في نص أل باتشينو يشرب الفودكا؛ إذ نعاين انفلات لشخصيات الفن، والأسطورة في حدث قتل مؤجل في هوامشه الافتراضية، والأسطورية، والفنية؛ يقول:
"أصبح الطبيب ميدان حرب بين الغضب بسيفه الناري، وضرباته السريعة، والشك بألوانه الزاهية، وبراعته في التخفي، بينما الشيطان الذي حل في آل باتشينو للحظات يتناول كأسا من الفودكا بالبرتقال، ويداعب رفيقته الشقراء، ويضحك ضحكات قصيرة متقطعة ....". ص 70.
المتوالية السردية السابقة – في خطاب المتكلم الشعري – توحي بالتعددية ما بعد الحداثية في هوامش مشهد الطبيب الشاك الغاضب، وتستدعي أطياف السينما، والأسطورة، وإكمال المشهد السينمائي بصورة توليدية إنتاجية توحي بتحولات الأعمال الفنية في السياق اليومي، وتأجيلها لبنية الحدث، والشخصيات في التباسها بأطياف الحلم، وتجدد أخيلة السينما في الوعي، واللاوعي.

------------------
د. محمد سمير عبد السلام (أكاديمي وناقد مصري)
 msameerster@gmail.com

تم عمل هذا الموقع بواسطة