قصائد نصيف الناصري: مفردة نافرة من جملة الإجترار |  بقلم /   د. حاتم الصكَر
 في تعليق أخير ينفي الشاعرالثمانيني المغترب نصيف الناصري صفة الصعلوك التي انتشرت وصفاً له في الشعرية العراقية.ويرى أن لا أحد من معاصريه يستحق هذا اللقب.الصعلكة في رأيه قيمة كبيرة ذات بُعد طبقي وبحث عن العدل ، لا ينطبق على (شعراء استجدوا نهارهم من أجل سكرة الليل!).
ربما يقارب واصفوه صعلكةً ما في خروجه عن القبيلة الشعرية؟.شاعر تعلم كبيراً بتعليم محدود ويمارس مهناً متواضعة من أجل العيش ، ثم يصارع الحروب القذرة المجانية التي أغرق فيها صدامُ العراق. وقرضت سنوات من عمره بين الخنادق الترابية وجبهات القتال التي يحوم الموت فيها كل لحظة.فعالجها بالهروب المتكرر والوقوع تحت طائلة السجن والخوف..لكنه أعطاها بُعداً شعرياً، فرصد تلك الحياة في قصائد أتيح لي أن أقرأها في مجموعة وزعها بخط اليد. أسماها(جهشات ) اختزالاً دالا لحزن حد البكاء.تلك وحدها كانت جرأة ذلك الزمن حين كان شعراء متملقون يمجّدون الحرب والموت . هي أربعة أعمال شعرية في كتاب واحد، تتصدرها بطاقة تعريفية تعكس كعتبة قراءة مزاجَ الشاعر وطريقته في الرؤية والتعبير عنها.فيكتب تعريفاً طريفاً بحياته هي مجموعة أحداث:
  1. - حدث أن وُلدت في ريف الناصرية عام 1960
  2. حدث أن  دخلت مركزاً لمحو الأمية عام 1970
  3. حدث أن دخلت الجيش مجنداً من 5-5-1979.
حياة حادثة  بمصادفات وتعارضات جعلت منطق الصدفة متحكماً في خطابه الشعري الأعم من نصه المعلن.من أجل تكريس صدمته بالحياة وتوصيلها شعرياً تبرز عدة استعانات في مجموعته تلك.يأتي بها لمؤازرة نصه الشعري ،ويمنحه هوية حداثية يغلفها العبث الذي سيتسلل إلى بنية قصيدته التي قامت بدايةًً على المفارقات القريبة من أشعار محمد الماغوط، قبل أن يختط له إيقاعاً خاصاً به لتجسيد تلك المفارقات التي عاشها في الشعر وخارجه.
صديقه المتشرد جان دمو سيرافقه شطراً طويلاً من حياته ببغداد وعمان.و يهديه أحد أعمال جهشات بعنوان (خمودات).هذه العنونة كانت تذكرنا برامبو(  إشراقات، هذيانات ، حيوات) وبسليم بركات(الجمهرات ، فيوضات).
بالنسبة للغجري لاحدود للعالم.وفي سعة الأفق يضع خطواته دون هدف..يحمل أشياءه ويمشي بعيدا ً عن البيوت التي يقول( إنها مأهولة بالذئاب).
ليس لي بيت
آوي إليه في الواحدة ليلاً
بعد أن أعبَّ جرعاتٍ مقيتةً من عرق (عين كاوه)
ليست لديّ مكتبة
أحياناً أركم جسدي المتعب فوق رصيف على مصطبة في شارع حيفا
حيث العمارات السكنية العالية
استلقي متوسداً حقيبتي المليئة بالحنانات والقصائد
مستذكراً جروحي الحية في الهجومات المتكررة
وأشاهد صوراً في ذاكرتي
لأصدقاء فُقدوا فوق جبل (سرسول)
إنني لا أملك شبراً من  أرض الوطن
وكمواطن شريف استبسلتُ في  الدفاع عن جباله
لا أملك 56 ديناراً لأستنسخ مجموعاتي الأربع....
ليس للغجري بيت ولا قبر حتى.
يقول لصديقه جان دمو :
              دع الضريح للصناديق البلاستيكية وكتّاب العرائض 
               متعلقاً بأسمالك المستعارة لنتوجك ملكاً.
تلك البدايات حري بها أن تُقرأ لنتعرف على جذور تجربة نصيف الناصري ونسغ قصائده .
كتبتُ عن (جهشات) -  وأنا مندهش- صفحة كاملة في  جريدة الجمهورية. كان يلاعب الحرب وينبش بواطنها وعذابات المجندين قسرياً مثله ،ويقطّر منها قصائد ملتاعة تزينها الصراحة والجرأة والطرافة أيضاً.إنه لا يستنكف الحديث عن ممارسة الجنود الجنس مع إناث  الحيوانات التي يستخدمونها للنقل والبريد.ولا الكذب والتزوير من أجل الهروب ،والعيش بحرية خارج البدلات العسكرية ،والسكر والضياع والتشرد والجوع.وإن شابها الخوف والترقب  كل لحظة.تلك الأيام التي تركت في نفسه أسوأ الذكريات عن العيش على أعتاب الموت، ورؤية الشبان يسقطون برصاص الحرب التي طالت حتى جعلته يكتب ديواناً لاحقاً بعنوان ( خرائب أيامنا).
لكنني بعد تلك القراءة وصفته بالغجري، ولم يكن بعدُ قد هاجر إلى السويد حيث يعيش الآن .غجري خارج القبيلة الشعرية ومفردة جامحة في جملة الإجترار التي عانى منها جيله، لوقوع شعرائه تحت ظرف مشابه واهتمامات  متماثلة.
كان الإتجاه إلى قصيدة النثر يلبي لدى الناصري رغبة الكتابة الشعرية بلا أوزان ورنين موسيقي خارجي.فكانت الصورة في أشعاره الأولى أقرب إلى شعر محمد الماغوط القائم على التقابلات الثنائية الحادة والمطابقات الصورية المتسمة بالبساطة  الصياغية والعمق الدلالي .ثم بدأت قراءاته المترجمة تظهر في قصائده كتأثره بلوتر يامون بوجه خاص وببودلير ورامبو..
ونضج شعر نصيف الناصري على نار الحرب والفاقة والتشرد ثم الإغتراب.لكن قصائده تقدمت في ملفوظها النصي وبلغت مناطق آهلة بالفكر والشعر.
يتساءل: 
 ماذا لو عشتُ حياتي في زمن آخر وأرض أخرى؟
هل كانت الكوابيس تمحقني وتوصد الظلال؟
..لي في العراق ثمرة حياة مقضومة 
وحمّى طويلة تسهر بين الخراب
أنا الانسان البائس أبحرت من مالمو الى البوّابات العظيمة لنينوى المحفورة في غصن الحكاية.. 
تلك هي تساؤلات نصيف الناصري وإجاباته عليها في ديوانه الذي يوجهنا عنوانه (خرائب أيّامنا ) بتزاوج المكان والزمان إلى جملته الشعرية المرهونة  بالخراب والخرائب.. 
مع الحكمة تهدأ اللغة ؛ تلتف حول كلماتها الاسطورية و أخيلتها صفات ملفتة في عناوين قصائده مثل:التحليقات الهزلية-الشروط الصحيحة - الإلتزامات الكبيرة-التبادلات الفعّالة -السقوف الطويلة -الفراديس العالية - البرية النائمة - مشياتنا المتعرجة -صدماتنا المستمرة وغيرها، مما يشير إلى ولعه بالتمثيل لغرض التقريب والتوضيح ،كمهمة تفسيرية يهبها التعقل الذي نلمحه في صياغاته وانشغاله بالكوني المنبثق من خلق الانسان وعدمه ،وصراع شره وخيره ؛وأساطيره التي صدقها وعاش حياته بقيود نواميسها.ويقترض الناصري من النثري ليمنحه وجودا شعريا على صفحته المتسعة لذلك التعقل .وكتلخيص للمهمة الشعرية يصرح الشاعر " أنا شاهد زمن المحنة ". لكنه خائف ؛ليست له طمأنينة الحكيم ،فيهرب النص فجأة للخيال :
        يركض خلفي تابوت
       ويكسر أغصان مرضي العضال
    وقنديل حياتي العليل يرتعش في النسيم المصلصل للظلمة ..
      أحلامي ميتة كلها. 
تلك أبلغ إجابة عن إمكان وجود زمن آخر وأرض أخرى لن ترفع حتما عن ظهره صخرة الألم.
يمضي نصيف في مغامرة القصيدة مستلهماً الغجري ذاته ،بعد أن حاولت المدن أن تسرق خطاه ،لكنه الآن يسافر رمزياً ولا يستقر روحياً.من شفيعة إلى أخرى.من وطن إلى آخر ،ومن ذكرى ماضٍ عاشه، إلى  فجيعة حاضر يعيش ذكراه منذ الآن بوعي وكثافة ..
تطول أسطر قصيدته ..يرفع سقف خيالاتها واستيهاماتها، وحكمتها العاقلة المضمرة لفوضاه ذاتها وقد شاخت وانطوت على ندم مرير وفاجع..سوف يتسلل إلى قراءتنا دون شك..
تم عمل هذا الموقع بواسطة