قصيدة النثر .. وسؤال القصيدة والنثر والسرد والتراث .. محمد علي عزب ( مصر )

                                         (1)

القصيدة بنية لغوية جمالية معرفية  دالة على الشعر, عُرفَت به وعُرفَ بها,  فاٍن كان الشعر هو ذلك الكائن البرى الذى يمتصّ رحيق اللغة فاٍن القصيدة هى شَهْد اللغة الذى يفرزه كائن الشعر, وكان للشعر منذ القدم عند مختلف الأمم أوزان موسيقية رسمية صائتة تخضع لمعايير متفق عليها, وفى تراثنا العربى حصر الخليل ابن أحمد الفراهيدى فى عهد هارون الرشيد أوزان الشعر منذ العصر الجاهلى حتى عصره فى كتاب سَمّاه "العرَوض" وهو أحد أسماء مدينة مكة المكرمة, وكان مصطلح القصيدة يرتبط ارتباطا وثيقا بالشعر العمودى القائم على وحدة الوزن والقافية حتى بعد حركة التجديد فى القرن الثالث الهجرى, وظهور أشكال شعرية جديدة خارجة على عمود الشعر ووحدة الوزن والقافية وهى الموشح الذى يكتب بالعربية الفصحى ويمكن أن تكون خَرجَته بالعامية والمَواليا الذى كان يكتب بالفصحى أو العامية, اٍضافة اٍلى الفنون الشعرية العامية "الزجل والقوما والكان وكان" التى كانت تكتب بالعامية فقط, ورغم اعتراف الأقدمين بشعرية هذا الفنون اٍلاّ أنهم لم يطلقوا على نصوصها مصطلح قصيدة فكان كل نص يُسمى باسم الفن الشعرى الذى ينتمى اٍليه, واٍن كانوا أطلقوا على وحدة بناء النص فى هذه الفنون مصطلح بيت ولكن ميزوه عن البيت فى القصيدة العمودية الذى يتكون من شطرين, فالبيت فى الموشح والزجل والقوما والكان وكان والمواليا كان عبارة عن عدة شطرات وليس شطرين فقط .

 وظل مصطلح قصيدة دالا على الشعر العمودى وبمرور الزمن اختفى الموشح تماما, وظلت القصيدة العمودية هى المعبّر عن الشعر العربى  الفصيح, وظلت كذلك فى النصف الأول من القرن العشرين  رغم وجود محاولات للتجديد مثل تجربة أمين الريحانى فى ديوان "هتاف الأودية"*  الذى صدّره بمقدمة عن مفهوم الشعر الحر)1 عند "والت وايتمان"، ومحاولات عبد الرحمن شكرى فى الشعر المرسل الموزون وزنا عروضيا لكنه متحرر من القافية كما فى قصيدة "نايليون والساحر المصرى", ومحاولات شعراء المهجر فى تجديد شكل القصيدة  وبنائها من مقطوعات شعرية منفصلة متصلّة, كل مقطع منها مختلف فى الوزن والقافية عن سابقه, ومحاولات الشعر المنثور الذى خرج على الوزن ولكنه التزم بالسجع والقافية واٍن كان يتضمن صورة مجازية هنا أو هناك فهو قائم على الخطابية والتكرارية والوصف الانفعالى, وكانت محاولات  التجديد الشعرية آنذاك محاولات فردية أو محاولات على نطاق ضيّق لم تحُدث هَزّة ذات بال فى المشهد الشعرى العربى, اٍلى أن جاءت محاولات على أحمد باكثير فى أواخر الثلاثينات وبداية الأربعينات من القرن العشرين فى مسرحية "روميو وجوليت" التى ترجمها شعرا  "منطلقا متحررا منطلقا" ومسرحية "اٍخناتون ونفرتيتى"  التى كتبها باكثير "شعرا متحررا منطلقا"  ووضع باكثير فى مقدمة هاتين المسرحتين أسس الشعر المتحرر المنطلق الذى يعتمد فى بنائه الموسيقى على التفعيلة بدلا من البيت وسُمّى ذلك النوع من الشعر فيما بعد شعر التفعيلة أو قصيدة التفعيلة*2, وذلك عندما تشكّلت حركة أو تيار شعرى جديد فى بداية الخمسينات انطلق ممّا أسّس له باكثير, وأخذت قصيدة التفعيلة شكل السطر الشعرى من الشعر الحر الذى نشأ فى الثقافة الأنجلوساكسونية عند "والت وايتمان" وكانت موسيقى الشعر الحُرّ الصائتة لا تلتزم بالأوزان العروضية الرسمية وتقوم على التنغيم واعتصار موسيقى اللغة حيث قال درينى خشبة : أن  (  الشعر الحُرّ هو الشعر الذى لا يتقيد بعدد التفعيلات فى البيت الواحد فقد يكون البيت تفعيلة واحدة أو تفعلتين أو ثمانية أو عشرة ، وقد يصل اٍلى اثنتى عشرة ... ولا يتقيد الشعر الحر  بالأوزان العروضية الرسمية ، فللشاعر أن يبتكر أوزانا جديدة اٍن استطاع ، وقد غلا شعراء الشعر الحر فى ذلك حتى لا تلتفت اٍلاّ الأذن الموسيقية وحدها اٍلى "غنائهم المكتوب"   كما يعبر مؤرخو الآداب الأوربية )3, واٍن كانت قصيدة التفعيلة استعارت الشكل الفنى للشعر الحُرّ لكنها  التزمت بمحددات الوزن العروضى  من ناحية بناء التفعيلة, وربطت السطر الشعر بالوزن العروضى العربى, واٍن كانت قد خرجت على عمود الشعر فاٍنها لم تهجر الوزن العروضى بشكل نهائى بل ظلت ملتزمة بمحددات وضرورات العروض فى شكل وبناء التفعيلة من حروف متحركة وساكنة هذا اٍلى جانب وحدة التفعيلة فى النص الشعرى, وأطلقت نازك الملائكة على شعر التفعيلة مسمى "شعر حر" وهذا خطأ فالشعر الحُر كما أشرت سابقا يختلف فى بنائه الموسيقى عن شعر التفعيلة,  ورغم  أن شعر التفعيلة لم يفارق الوزن بشكل نهائى كان العقّاد الذى كتب قصيدة التفعيلة ثم تركها يحيل قصائد التفعيلة اٍلى لجنة النثر فى المجلس الأعلى للآداب والفنون لمجرد أنها تخالف الشكل العمودى, وقد أهمل النقد العربى الرسمى فى تلك الفترة مولود جديد هو قصيدة العامية عند فؤاد حداد وصلاح جاهين فى مصر وميشيل طَرّاد وموريس عواد فى لبنان لأنها تكتب بالعامية الدارجة وهذا موضوع آخر .

وفى سنة 1959م على صفحات مجلة شعر اللبنانية ظهر المولود الاٍشكالى الجديد  "قصيدة النثر", وقد نقل أدونيس هذا المصطلح "قصيدة النثر" من الناقدة الفرنسية سوزان برنار, وكانت قصيدة النثر صدمة جمالية كبيرة فى الوسط الثقافى العربى الذى ربط بين الشعر وموسيقى العروض منذ 1500عام,  ولم يكن الخلاف مع قصيدة النثر من قِبَل أنصار القصيدة العمودية فقط بل مع بعض روّاد قصيدة شعراء التفعيلة أيضا,  ومن نافلة القول الاٍشارة اٍلى أن أساس الخلاف كان متعلّقا بالوزن العروضى وأن مصطلح قصيدة دال على بنية لغوية موزونة سواء كانت عمودية أو تفعيلة, فجاء رفض البعض للمصطلح ذاته دون رفض أنه نوع أدبى فاقترح البعض تسميته "شعر منثور" أو "نثر شعرى" أو "نثر فنى" فالمهم أن لا يُسمى قصيدة, وذلك لارتبارط مفهوم مصطلح القصيدة لديهم بموسيقى الوزن العروضى كما أشرت سابقا, والبعض الآخر رفض "قصيدة النثر" رفضا مطلقا مثل نازك الملائكة التى رأت أن قصيدة النثر تخريب للشعر العربى؟!,  وتساءلت هى وغيرها من الرافضين لقصيدة النثر كيف تكون قصيدة وكيف تكون نثر فى نفس الوقت ؟!, وهذا السؤال من وجهة نظرى ليس سؤالا يبحث عن اٍجابة بقدر ما هو سؤال استنكارى مبنى على وجهة نظر أصحابه ورؤيتهم الخاصة لعلاقة الشعر بالوزن العروضى, الذى هو بالأساس لازمة من لوازم الشعر عند العرب الأقدمين وليس هو كل الشعر, واٍلاّ ما فرق النقد العربى القديم بين ألفية بن مالك فى شرح النحو والموزونة وزنا عروضيا صحيحا وبين قصائد المتنبى وأبى نواس وأبى العلاء وغيرهم من الشعراء الكبار الحقيقين .

 واستطاعت قصيدة النثر أن تخوض تلك المعركة لاٍثبات مشروعيتها برأسى حَرْبة الرأس الأولى هو التنظير لقصيدة النثر وتقديمها للقارئ العربى فى كتابات أدونيس وأنسى الحاج النقدية على أنها شكل شعرى جديد يبحث عن آفاق شعرية جديدة وتبيئة هذا الشكل وصبغه بالروح والثقافة العربية, وأنه كما يُكتب الشعر بالوزن فهو أيضا ـ الشعرـ  يُكتب بالنثر,  واعتبر أدونيس أن الشعر رؤيا ويميز بين الرؤيا والرؤية اٍذا يقول : ( والفرق بين رؤية الشئ بعين الحِسّ ورؤيته بعين القلب هو أن أن الرائى اٍذا نظر للشئ بالرؤية الأولى يراه ثابتا, أما الرؤيا بالرؤية الثانية فاٍذا نظر اٍليه يراه لا يستقر على حال واٍنما يتغير مظهره واٍن بقى جوهره ثابتا )4 ,   فالرؤيا هى التجربة الشعرية القريبة من الحلم والتى يعيشها الشاعر مُحَلّقا بأجنحة الخيال والبصيرة يتجاوز السطح الخارجى للأشياء, وينفذ للعمق باحثا عن الجوهر, ويصوغ الشاعر تلك الرؤيا عبر اللغة الشعرية التى تنزاح فى تركيبها عن معيار اللغة التوصيلية, فاللغة الشعرية هى لغة الاٍيحاء والاٍيماء والتخييل والمجاز والترميز, وقصيدة النثر قصيدة  لأنها تجسد الرؤيا الشعرية للشاعر عبر التشكيل الجمالى باللغة الشعرية بعيدا عن الوزن العروضى الصائت, وارتبطت بالنثر لأنها  تبحث عن شعريتها وحساسيتها الجديدة فى النثر الخالى من ذلك الوزن العروضى, ورأس الحربة الثانية كانت نصوص قصيدة النثر عند أنسى الحاج ومحمد الماغوط وأدونيس وسركون بولس وغيرهم, وجاء جيل السبعينات رفعت سلام وحلمى سالم وجمال القصاص ومحمد آدم وغيرهم ليتخذ من قصيدة النثر خيارا جماليا يعبر به عن تجربته الشعرية ويضيف اٍلى منجز قصيدة النثر على مستوى كتابة القصيدة وعلى مستوى التنظير, وقطعت قصيدة النثر شوطا كبيرا اٍلى أصبحت شكلا شعريا مركزيا فى الشعرية العربية الحديثة منذ تسعينات القرن العشرين وخرجت من الأطر التعبيرية التى رسّخ لها رواد قصيدة النثر فى نهاية خمسينات القرن العشرين,  وهى الاٍيجاز, والتوهج : الاٍشراق, والمجانية : اللازمنية  باعتبارها لوازم لقصيدة النثر رصدتها سوزان برنار فى كتابها "قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا" والذى تضمّن تعريفا لقصيدة النثر بأنها ( قطعة نثر موجزة من غير اٍخلال, موحدة ومضغوطة كقطعة من بلور تتراءى فيها مائة من الانعكاسات المختلفة )5, ولم تعد قصيدة النثر مرهونة بهذه الشروط والأطر التعبيرية فاكتسبت آدوات تعبيرية جديدة كالالتحام بشكل بارز بآليات السرد والمونتاج السينمائى "التقطيع الصورى" والسينوجرافيا "البصرية السينمائية",  وارتادت قصيدة النثر مناطق شعرية جديدة منها تناول اليومى المعيش والخاص بالذات الشاعرة, وموقف الذات من العالم والآخر والتاريخ والحاضر .

وهكذا دخلت قصيدة النثر منذ ظهورها كشكل شعرى جديد  اٍلى آفاق الشعرية من باب الرؤيا الشعرية الاٍبداعية والتشكيل الجمالى, وهو الباب الذى يدخل منه كل الشعر الحقيقى مهما كان شكله الفنى  قصيدة نثر أو وزن أو عامية, وهذا الباب الملكى هو الرؤيا والتشكيل الجمالى ( ورؤيا الشاعر ليست هى المحتوى أو المضمون الاجتماعى أو الدلالة الفكرية، اٍنها تنحت خصائصها من جماع التجربة الاٍنسانية التى يعيشها الشاعر فى عالمنا المعاصر بتكوينه الثقافى والسيكولجى )6, ويجسّد لنا الشاعر رؤياه عبر  اللغة الشعرية وقد رأت "جوليا كريستيفا" فى اللغة الشعرية قوى مشحونة بالانفعالات,  وهذه الانفعالات هى النبض والأثر الذى نشعر به عندما نتعاطى الشعر  .

                                           (2)

ولمن يظن بأن قصيدة النثر بلا قوانين أو شروط  شعرية  فاٍن القانون الشعرى والشرط الجمالى لقصيدة النثر هو الرؤيا والتشكيل عبر اللغة الشعرية بوعى جمالى وحساسية شعرية مغايرة, وليس مجرّد مخالفة الوزن العروضى فقط , واٍذا دخل شاعر اٍلى آفاق قصيدة النثر من تلك المخالفة فقط ـ مخالفة الوزن ـ دون أن يدخل أولا من باب الرؤيا والتشكيل الجمالى يمكن أن يقع فى مأزق ضعف أو انتفاء الشعرية ويكتب نصّا نثريا ليس فيه روح الشعر, تماما كالشاعر الذى يدخل للشعر من باب الوزن دون الدخول من باب الرؤيا والتشكيل الجمالى فينتج نظما ضعيفا لا شعرية فيه .

اٍذا بالرؤيا والتشكيل الجمالى حققت قصيدة النثر شرطها الشعرى, وهذا الشرط الشعرى يروق لى أن أسميه "حَلَّا سحريا" يجيب عن سؤال قصيدة النثر من ناحية صياغة المصطلح والقصيدة والنثر والسرد؟, فهو شرطها وقانونها الشعرى الأبرز, وهو المحدد الأول للفروق الجوهرية بينها وبين النثر الفنى والقصة القصيرة,  فالفرق بين النثر الفنى وقصيدة النثر  ليس  فى  الشكل الخطى البصرى ومساحات السواد والبياض على الورق وكتابة النثر الفنى فى شكل سطور مكتملة تملأ مساحات البياض, فقصيدة النثر فى بدايتها عند رامبو وبودلير كانت تُكْتب فى شكل سطور مكتملة تملأ مساحات البياض, ثم استعارت بعد ذلك شكل السطر الشعرى من قصيدة الشعر الحُر الذى نشأ فى الثقافة الأنجلوساكسونية, وأول من قدم لنا السطر الشعرى بديلا للبيت هو الشاعر اللبنانى أمين الريحانى فى ديوانه "هتاف الأودية" سنة 1910م, والخلاف الجوهرى الحاد بين قصيدة النثر التى هى شكل شعرى بامتياز وبين النثر الفنى, هو أن النثر الفنى حتى واٍن كان  فى بعض الأحيان به بعض الصور المجازية والرموز فهو أولا وأخير نثر أدبى ينطلق من رؤية ـ بالتاء المربوطة ـ  مشاهدة بصرية بالعين ووجهة نظر يعالجها الناثر بمنطق فكرى ذهنى, ينطلق من رؤية "مشاهدة بصرية ووجهة نظر" وليس من رؤيا شعرية, والرؤيا الشعرية تتسع وتضم بداخلها الرؤية باعتبارها مشاهدة بصرية أو وجهة نظر نظر فكرية, اٍذا مفهوم الرؤيا أوسع وأشمل من مفهوم الرؤية  ويرى د. غالى شكرى ( الرؤية على أحد عناصر الرؤية الحديثة فى الشعر )7 .

وحتى ما يطلق عليه "النثر الشعرى"  هو نثر ليس شكل فنى محدد ويعتمد على الاسترسال والاستطراد فى خط مستقيم لا نهاية له, وهو نثر وصفى قائم على المناجاة والتأمل الأخلاقى  والسرد الانفعالى )8, أما قصيدة النثر فهى شكل شعرى / بنية لغوية جمالية معرفية قائمة على  تنسيق جمالى وتشكيل وتجسيد رؤيا الشاعر عبر اللغة الشعرية ذات الطابع الانزياحى  .

 يبدوا واضحا للقارئ أن قصيدة النثر تتكئ على السرد فى بنائها الفنى, والقصة القصيرة قائمة بالأساس على السرد, اٍذا هناك اشتباك ما بينهما لدرجة أنه يمكن  أن تتوقع أن يصدمك سؤال مفاده كيف أفرق بين القصة القصيرة وقصيدة النثر ؟! , والواقع اٍن اٍمكانية حضور السرد وتوظيفه فى بنية النص الشعرى مسألة قديمة, فالسرد باعتباره طريقه للحكى أو خيط ناظم للمقاطع والصور الشعرية أو اٍطار يؤطر القصيدة ويجمع مقاطعها موجود بدرجات متفاوتة فى الشعر منذ القدم, فالملاحم الحكائية الكبرى كانت تصاغ شعرا مثل "الاٍلياذة والأوديسا", وهناك قصائد عمودية أو قصائد تفعيلة  استخدمت فعل السرد وكان فيها الشاعر راويا يستخدم السرد الحكائى كاٍطار جامع لفقرات النص الشعرى مثل قصيدة "شنق زهران" لصلاح عبد الصبور,  وقصيدة  النثر فى شعريتها الجديدة كما يقول المرحوم شريف رزق ( التحمت بآليات السرد والسينما التحاما واضحا وتحررت من أيدلوجية اللغة وشَخْصَنِيتَها وحَدَاثَنِّيتها وانحازت اٍلى آداء سردى وبصرى بسيط وشفاف )9, وحضور السرد فى قصيدة النثر  وفى كل أشكال الشعر يصبغه بالشعرية فيصبح سردا شعريا وجزء من أدوات الشاعر التى تحقق الطابع الأيقونى للشعر أى قدرة المفردات والأدوات والأساليب التى يستخدمها الشاعر على استحضار صورة كلية للعالم الذى يشير اٍليه النص, فالسرد الذى أصبح أحد الأدوات البنائية المهمة فى قصيدة النثر هو سرد شعرى قائم على الاٍيحاء والاٍيماء والتكثيف وآداة لنسيج شبكة المتخيل الشعرى والربط بين مقاطع النص, بينما السرد القصصى بناء فنى لجنس أدبى سردى  يقدم عالما قصصيا فى مكان ما وزمن ما تدور فيه  حدث / أحداث يقوم  بها شخصية / شخصيات ويقدم الراوى هذا العالم القصصى عبر الراوى الذى يتخذ منظورا معينا "راوى غائب أو راواى حاضر مشارك أو سرد بضمير المُخَاطَب" ويوهمنا بأن هذا العالم القصصى موجود بالفعل, فالقصة القصيرة فن سردى تقدم خطاب قصصى أما قصيدة النثر فهى شكل شعرى بامتياز واٍن وظَّفَت  السرد فاٍنها تستخدمه كآداة من أدواته التشكيلية وتصبغه بالشعرية ويقول المرحوم شريف رزق عن مرواغة السرد الشعرى فى قصيدة النثر الجديدة لكى يحافظ على خصوصيته فاٍنه يستغل (  آليات الحذف والوصل والفصل, وتقنيات أخرى, سينيمائية كالمونتاج وغيرذلك مما يعزز حضور الفعل السردى أكثر من الحدث الحكائى )10 .

ويتبنَّى بعض الأدباء والنقاد وجود شكل أدبى يتموقع بين الشعر والنثر والقص يُسمى "نَصّ", هذا بالاٍضافة  اٍلى مصطلح "القص قصيدة" أو "عبر النوعية" عند الشاعر والروائى والناقد اٍدوار الخراط, وخلاصة القول فى ذلك من وجهة نظرى التى تتفق أو تختلف معها هو أن الأشكال الأدبية والفنية يمكن أن تستفيد من بعضها البعض, لكن دون ذوبان الأجناس التى  آرى أنها مقولة نظرية لا تتحقق فى الواقع الأدبى فالشعر شعر والقّصّ قَصّ, فاٍن كان النَّصّ يغلب عليه الرؤيا الشعرية والتشكيل الجمالى بلغة شعرية  مشحونة بقوى انفعالية فاٍنه يقدم خطابا شعريا ويُطلق عليه مسمى قصيدة, واٍن كان النص يقدم عالما تدور فيه أحداث فى زمان ومكان ما تقوم بها أشخاص ويقدم رواى عبر السرد القصصى الحكائى الذى ينطلق من بؤرة الحدث ويورد تفاصيله وتناميه الدرامى فاٍنه نص قصصى  يُطلق عليه مسمى قصة قصيرة أو قصة قصيرة جدا .

    

                                         (3)

فى محاولات البحث عن جذور لقصيدة النثر فى تراثنا العربى نَقَّب بعض الباحثين عن ذلك فى تراث النثر الفنى العربى, بحثا عن  جملة موحية هنا أو صورة مجازية هناك, وهم بذلك من وجهة نظرى لا يضعون الأمور فى نصابها لسببين الأول منهما :ـ هو أن قصيدة النثر بوصفها شكلا شعريا لم تُعرف اٍلاّ فى آواخر القرن التاسع عشر فى فرنسا وبعدها أصبحت شكلا شعريا عالميا, صبغته كل أُمَّة بثقافتها وروحها ووعيها الجمالى, ونجح الشعراء العرب فى ذلك وأصبح لدينا قصيدة نثر عربية, وأن هذه المحاولات ما هى اٍلاّ تلفيق فكيف تبحث فى النثر الفنى عن جذور نوع شعرى يبحث عن تحقق شعريته فى النثر الخالى من الوزن ؟!, واٍن كان النثر الفنى العربى القديم وخاصة نثر المُتَصَوِّفّة يتضمن رمزا هنا أو صورة مجازية هناك فاٍنه نثر أولا وأخيرا ينطلق من رؤية فكرية ووجهة نظر ولم ينطلق من رؤيا شعرية وتشكيل جمالى مثل قصيدة النثر, واٍن كان قصد هؤلاء الباحثين هو أن هناك نصوصا نثرية قديمة يمكن اعتبارها جذورا لقصيدة النثر لأن بها بعض التشكيلات المجازية والأخيلة والأبنية اللغوية القائمة على الانحراف عن معيار اللغة العادية, وبذلك فهى نصوص نثرية صيغت بلغة قريبة من لغة الشعر, فاٍن هذا الانحراف والانزياح عن اللغة العادية موجود بدرجات متفاوتة فى لغة الأدب بوجه عام, واٍن كان الانحراف والانزياح شرط أساسى فى لغة الشعر, فاٍن اللغة الشعرية اٍلى جانب ذلك كما رأت "جوليا كريستيفا" مشحونة بقوى انفعالية وهذه القوى الانفعالية هى النبض والأثر الذى نشعر به فى  لغة الشعر .

السبب الثانى : هو أن قصيدة النثر تنتمى لجنس الشعر, وكما هو معروف فاٍن تراث الشعر القديم لدى كل الأمم كان قائما على الوزن والقافية, واٍن كانت قصيدة النثر فارقت الوزن والقافية حيث أنها شكل شعرى حداثى, فاٍن تراث الشعر هو تراثها فالشاعر القديم كان يخاطب الشعور وكان لديه تَخْييل وانحرافات لغوية جمالية, وكان يشحن مفردات وتراكيب اللغة بقوى انفعالية تتوافق مع عصره وشروطه الثقافية والمعرفية, وقصيدة النثر انطلقت من مخاطبة الشعور الاٍنسانى عبر الرؤيا واللغة الشعرية المشحونة بالقوى الانفعالية بآليات جديدة مغايرة لأليات الشاعر التراثى, فهى اٍذا حلقة معاصرة سبقتها حلقات ممتدة بجذورها فى التراث الشعرى, وصراع قصيدة النثر ليس مع التراث الشعرى العمودى ببساطة لأنه تراث وانتهى, بل الصراع مع من يلزمون بمحاكاة النموذج التراثى واعتباره النموذج المثالى الذى يمكن أن يعبر عن الشعرية المعاصرة دون غيره من الأشكال الحديثة والمعاصرة, ولتكن علاقة قصيدة النثر بالتراث الشعرى العربى علاقة قائمة على الأسئلة عمّا أضافته قصيدة النثر من رؤي شعرية وصياغات وتشكيلات لغوية, واعتبار شاعر قصيدة النثر أن تراث الشعر العربى هو تراثه يتفاعل معه باعتباره زاد ثقافى وحصيلة معرفية جمالية, وحلقة من حلقات الشعرية العربية التى تنتمى لها قصيدة النثر الحديثة والمعاصرة, فَينتُج الجدل المثمر بين القديم والجديد فى وعى الشاعر المعاصر الذى اتخذ من كتابة الشعر بالنثر وسيلة للتعبير عن رؤاه وشعريته الجديده, مخالفا أسلافه الذين اتخذوا من الشكل العمودى المتاح والمعروف فى عصرهم وسيلة لتعبير عن شعريتهم, اٍنها سلسلة التطور فالقديم له شرطه الجمالى وفقا لظروف عصره الثقافية والاجتماعية والجديد له شرطه الجمالى المعاصر,  فلا قطيعة وفى نفس الوقت لا محاكاة للأساليب الجمالية فى صياغة الجملة الشعرية اٍنما كما قلت أشرت سابقا علاقة تطوّر فى سلسلة ممتدة .

ربما كان أحد دوافع البحث عن جذور لقصيدة النثر فى تراثنا النثرى هو دحض تهمة التغريب التى ألصقها البعض بقصيدة النثر ؟!, وفى نفس الوقت اتجهت عملية البحث تلك فى النثر الفنى بدلا من التراث الشعرى بسبب مفارقة قصيدة النثر للوزن العروضى, وفى السطور السابقة أشرت اٍلى أن تراث الشعرى العربى هو تراث قصيدة النثر, أمّا تهمة التغريب التى يلصقها البعض بقصيدة النثر وأنها وافدة من الغرب, فقد أشرت فى مقالى "الأدب العربى  ووهم التجذير" أن قصيدة التفعيلة باعتبارها شكلا شعريا حديثا هى الأخرى استعارت السطر الشعرى من الشعر الحُر الذى نشأ فى الثقافة الأنجلوساكسونية ولم يكن موجودا فى ثقافتنا العربية, وكذلك المسرح والقصة القصيرة والرواية لم تكن موجودة فى تراثنا العربى, فالأشكال الأدبية واٍن نشأت فى بلد معين فاٍنها ملك للاٍنسانية كلها, لا يهم من أين جاءت فالمهم كيف أصبحت وهل اصطبغت بالوعى الجمالى والروحى الثقافى العربى أمّ لا ؟, وهذا ما أجابت عليه قصيدة النثر منذ ظهورها كشكل شعرى جديد, ونالت مشروعيتها واستحقاقها الشعرى والجمالى فى المشهد الشعرى العربى الحديث والمعاصر .

التعليقات والاٍحالات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ اٍنظر مقدمة ديوان "هتاف الأوية" ص 5 ـ أمين الريحانى ـ الموسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 1986م 

2ـ أنظر ـ آراء حول قديم الشعر وحديثه ـ عبد العزيز المقالح ـ كتاب العربى ـ ص 158 , 159،  وفى مقدمة ترجمة "مسرحية روميو وجولييت" ـ مكتبة مصر ـ بدون تاريخ  ص3 ومقدمة مسرحية "اٍخناتون ونفرتيتى" ـ الطبعة الثانية ـ دار الكاتب العربى القاهرة 1967م ص 5

3ـ    درينى خشبة  "الشعر الحر والشعر المرسل" ـ  مجلة الرسالة ـ القاهرة  25 ـ 10 ـ   1943 م  العدد 5343 ـ

4 ـ أدونيس ـ الثابت والمتحول ـ  دار العودة بيروت ـ 1978م ـ الجزء الثالث ص168

5ـ أنظر "قصيدة النثر" ـ سوزان برنار ـ ترجمة زهير مغامس ـ الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة 1996م ـ ص 136 و137

6ــ د.غالى شكرى ـ شعرنا الحديث اٍلى أين ـ دار الأفاق ـ بيروت 1978م  ص 75

 7ـ المصدر السابق ص 76

8ـ أنظر محمد جمال باروت ـ الحداثة الأولى ـ  الناشر : اٍتحاد كتاب وأدباء الاٍمارات ـ 1991م  ص159 وما بعدها

9ـ شريف رزق ـ آفاق الشعرية العربية الحديثة فى قصيدة النثر ـ  دار الكفاح للنشر والتوزيع ـ  المملكة العربية السعودية ـ 2015ـ ص 192

10ـ  المصدر السابق ص 8


تم عمل هذا الموقع بواسطة