مجلة شعر: الجماعة والمشروع .. د. حاتم الصكَر ( العراق )


نحاول هنا تلمس أولى الدعوات الرسمية المعترف بها حول قصيدة النثر ككيان نصّي قابل للقراءة والنقد ضمن الشعرية العربية التي سيطرت عليها التجارب الوزنية بأسماء مختلفة.

.أعني هنا مجلة ( شعر) اللبنانية.

لقد مهدت محاولات كثيرة لظهور المجلة والجماعة وبالتحديد ما عرف نقدياً بالشعر المنثور ( محاولات امين الريحاني وجبران,,وغيرهما)لكن ذلك لم يؤجل أويلغي الحاجة لتحرير القصيدة لغوياً وإيقاعياً.فكان رواد قصيدة النثر يجتمعون كمسمى طليعي لإنجاز تلك المهمة.وأرى لأن التمهيد لمقالاتنا بالوقوف على تجربة المجلة والجماعة ضروي لمناقشة أزمة القصيدة وما يتصل بالمصطلح والمفاهيم المتصلة بكتابتها.وكذلك فضائل الرواد وسقطاتهم أيضاً ن كمراجعة للتجربة وضرورة تخطيها.

لم نعد نعرف تحديدا مَن الذي أطلق على مجموعة الشعراء الذين التمّوا حول مجلة (شعر ) منذ انطلاق عددها الأول ببيروت شتاء عام 1957 وصف ( جماعة شعر) مرسّخاً بذلك مغالطة فكرية كبيرة ، كون مصدريها وأصدقائهم (نخبة) لا ترضى بنعتها بالجماعة ، ولا أن توصف بالإجماع ، بل كان التفرد والتجاوز والرفض هي أكثر شعارات المجموعة استفزازا و أشهر راياتها إعلاناً ، ولربما كان الخروج على الجماعة والعرف الشعري المستقر هو أفضل ما حلم هؤلاء بأن يوصفوا به.

ولكن ما فعلته تلك النخبة الصغيرة وبأعداد محدودة وسنوات قليلة ترك –في مسار الشعرية العربية- بَصمةً واضحةً وشديدة الأثر لم تتهيأ لمجلات أطول عمرا ، وتصدرها مجموعات أكثر تأثيرا ونفوذاً ، و رغم أنها جاءت في سياق ثقافي غير مناسب لقبولها ، إذ لم تكن قد استقرت بعد الحركة الأخف منها ثورية وتغييراً – أعني حركة الشعر الحر بالمقترح العراقي الذي قاده الشعراء الرواد نازك والسياب ومن تلاهما من المجددين: البياتي وعبدالصبور وحجازي ونزار وخليل حاوي وسواهم… والتي لم تكن بمطالبها الفنية والجمالية وبرنامجها الكتابي تغفل اشتراطات الشعرية العربية الموروثة بصدد الوزن والقافية و وجودهما ولكن بكيفيات مختلفة وهيئات متنوعة في القصيدة الجديدة .

أمّا أن تظهر بعد ذلك بحوالي ثماني سنوات دعوة لهجر القافية والوزن تماما ومؤاخاة النثر والشعر معا في (قصيدة نثر) تعتمد إيقاعات لا مرئية أو محددة ، فهو ما لم تكن الأذهان والأفهام مهيأة له ، فضلا عن نداءات المجلة وشعرائها بشأن التمحور حول اللغة ، وهجر الموضوع والمعنى ونبذ الالتزام بالقضايا العامة ، و عدم مراعاة فهم الجمهور ،ولقد كان ذلك مبعث هجوم على المجلة والمجموعة ومشروعها (قصيدة النثر) من أطراف متباينة المناشيء والاتجاهات والحاضنات الفكرية ، من الماركسيين والقوميين وحتى المجددين من رواد حركة الشعر وأتباعها ، ولم تخرج حجج الرافضين عن الدعوى باستحالة جمع الشعر والنثر في قصيدة، وبأن هذا الذي تنشره المجلة نثرا غامضا ، وتقليدا للشعر الغربي ، ومظهر عجز (الشعراء )عن الكتابة بالوزن أو جهلهم بها..

كان أبرز شعراء المجوعة وكتابها في المجلة يوسف الخال وأدونيس وتوفيق صايغ وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا وعصام محفوظ وجبرا ابراهيم جبرا ومحمد الماغوط وخالدة سعيد وفؤاد رفقة ورياض الريس ثم ليكون قريباً منهم رغم المحافظة على الكتابة بالشعر الحر شعراء مثل السياب الذي كان يراسلهم وسواه من ضيوف المجلة والمنتدى أو الخميس الشعري الذي تعقده المجلة.

لم يكن الخصوم وحدهم سبب توقف المجلة الأول خريف عام 1964 ، بل كانت المجموعة ذاتها تعاني مشكلات داخلية ، اعترف ببعضها يوسف الخال –رئيس التحرير في بيان التوقف الأول ، ومنها حاجز اللغة بين المجلة وقرائها وبين قصيدة النثر والمتلقي، ولكن التوليف الفكري للمجموعة وتباين منطلقاتها رغم التمامها الظاهري حول المشروع كان سببا أكثر أثرا في التوقف وتعثر المشروع التحديثي، الأمر الذي تغفله كثير من الدراسات التي تناولت تجربة المجلة ومشروعها ،رغم اعتراف أفراد المجموعة نفسها بذلك ، فجبرا إبراهيم جبرا لا يصنف كتابته الشعرية ضمن ( قصيدة النثر ) بل يسميها ( الشعر الحر ) بالمصطلح الغربي السليم الذي ينطبق على شعر والت ويتمان، ويدرج شعر توفيق صايغ والماغوط ضمنه ، وهو ما نبّه إليه الدكتور عبدالواحد لؤلؤة في دراساته المبكرة حول قصيدة النثر ، بينما ينتمي عدد من شعراء المجموعة لميراث قصيدة النثر الفرنسية ذات التمركز اللغوي وإغفال المعنى ، مقابل إنتاج علاقات لغوية غريبة وبنى صورية صادمة –كما في شعر أنسي الحاج وأبي شقرا، ومن الجماعة من لم يهمل الوزنية تماما مثل فؤاد رفقة. أما في المنظور الرؤيوي فثمة متدينون ودنيويون، إليوتيون وبودليريون، وفي الموقف من التراث هناك من يصرخ ويصرح بأنه لا تراث له وأنه خارج الموروث كله، بينما تفرد المجلة وبتأثير مباشر من أدونيس صفحات من كل عدد لمختارات من الشعر العربي القديم ، كانت نواة قراءته المعمقة للموروث الشعري التي نتج عنها كتابه المهم ديوان الشعر العربي.

ولعل أكثر الجنايات التحديثية فداحة هو ما بشّرت به المجلة بحماسة غريبة لأفكار سوزان برنار في أطروحتها عن قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا، وليس الخطأ في تبني أفكار برنار والقوانين التي استقرأتها من متابعة التحدبث في أدب لغتها الفرنسية ، بل في التلخيص المخل والابتسار الذي صنعه كتاب المجلة لتلك الأفكار والصنمية التي منحوها لها.

لم تغب عن عقل محرري المجلة وأصدقائهم تلك التباينات فراحوا يمهدون لأرض مشتركة لتقبل تجاربهم المتنوعة ، فاهتموا –كل عدد- بتقديم ترجمات مطولة لشاعر غربي حداثوي ، ولم يمنع تباين الحاضنات الفكرية لهم من الالتقاء حول سلالة متمردة، ترضي القادمين من الثقافة الإنكلو-سكسونية كجبرا وصايغ والخال، والفرانكفونيين كأدونيس وأنسي الحاج وأبي شقرا ،كما حرصوا على تقديم الثقافة المتنوعة لا الشعرية فحسب ، فظهرت الاهتمامات بالتشكيل والدراما في إشارة لحاجة قارئهم الجديد لتلك الفنون المتواشجة في كتابتهم الشعرية.

لكن ذلك لم يخفف الهجوم على المجلة التي اتهمتها نازك الملائكة مثلا بأنها مجلة تصدر ببيروت ( بلغةٍ عربية وروحٍ غربية) وبأن تجارب شعرائها ونصوصهم( بدعة غريبة) حتى استحال معنى كلمة شعر عندهم كما تعتقد( إلى التعبير عن النثر) واستفزها بخاصة وضع المجلة كلمة ( شعر ) على كتب ترى نازك أنها تحوي نثرا لا شعرا كديوان الماغوط (حزن في ضوء القمر).

ولعل إصدارات المجلة وجوائزها التي فاز ديوان السياب( أنشودة المطر) بإحداها عام 1960دليل طموح المجموعة والمجلة ، إذ لم تكتف بالإصدار الفصلي لها أو بالندوات وتعدت ذلك إلى المنشورات التي تحمل اسم( دار شعر) الحاضنة للمجلة.

ولأن (شعر) ليست مجلة بالمعنى المهني والحِرَفي ، فقد ظل- حتى بعد توقفها - مناخها الذي أشاعته في الشعرية العربية، وتواصلت تجارب كتّابها وشعرائها وتوسع أفق قراءة قصيدة النثر وكتابتها ، ولعل تعثر المجلة كإصدار ونجاح قصيدة النثر كمشروع يثير مشكلة تلقٍ وتداول غريبتين، إذ لم يحصل أن تتوقف المجلة بقرار من محرريها ثم تعود ثانية للصدور لتتوقف نهائيا ، بينما يتسع مشروعها ويكتسب شرعية واعترافاً من المؤسسات الاجتماعية والأدبية وحتى الأكاديمية.

أمثولة مجلة (شعر) في الشعرية العربية كتابةً ونقدا وقراءةً تستحق التوقف والدراسة بعد مضي خمسين عاما على الشرارة الأولى التي أشعلتها التوجهات النظرية والنصوص والرؤى التي زخرت بها المجلة ، رغم سنوات حياتها القصيرة التي استمرت بعد توقفها ، وظلت مجال خصام ونقاش دليلاً على أهمية ما جاءت به وخطورته وحيويته

تم عمل هذا الموقع بواسطة