مشّاء ينحني ليلتقط القصيدة.. د. حاتم الصكر ( العراق )

لا أثقُ أبداً في المفاتيح

ولا آمنُ مكر الأقفال

فتحي عبدالسميع

وأنا أقرأ ديوان الشاعر فتحي عبدالسميع( أحد عشر ظلاً لحجر).شعرت باني تأخرت كثيراً عن قراءته. وهو الذي بدأ النشر عام 1997 بديوانه(الخيط في يدي) .وكي لا أضيع الوقت في البحث عن الأسباب سأعلن سروري بما قرأت له من قصائد في الديوان الذي بدا لي وكأنه قصيدة واحدة من مقاطع أو أجزاء. أي أن أجزاءها ليست قصائد منفصلة ،بل سلسلة تتميز باستقلالها ضمن وحدة قصائد  الكتاب .

العنونة تجذب القارئ للتفكير بالتناص في الصياغة . (أحد عشر) رقم له في الذاكرة دلالة ميثولوجية تحيل إلى الكواكب التي سجدت ليوسف.  لكنها هنا ظلال. كل ظل يعكس صورة لشيء. وهذه الشيئية أعطت للقصائد ملموسية تتراوح بين تماهي الشاعر مع الأشياء التي صنع لها ظلالاً، وبين أنسنتها- أي إسقاط الإدراك والإحساس على جمودها الخارجي-.أصبحت أشياء القصائد كائناتٍ أختارها الشاعر بدقة ومنحها الحياة في النصوص، فاكتسبت بوجودها الشعري وحياتها في القصائد عذوبةً وشجناً هو فيض من إحساس الشاعر..

القصائد وأجزاؤها ترتكز على شيء نمر به غير عابئين. لكنه في الكتاب الشعري امتلك وجودا ًشعرياً. فالشاعر (مشّاء) ..يلتقط شيئا كلما انحنى .

يهدي فتحي  عبدالسميع قصائده بقصد مسبق ليربط العتبة الإهدائية بالنص. وهذا دليل وعي الشاعر بما يصنع في النص. لنأخذ مثلاً هذه الإهداءات المتناغمة ( إلى ورقة لا أمر بها وحيدا)( إلى أقفال ترقص أحياناً/ ومفتاح يزورني في المنام)      (إلى عمود إنارة صدئ/ يقف طويلاً أمام بيتنا).تلك الإهداءات وسواها ليست تزيينية .إنها عتبات توجه قراءتنا لنتماهى مع الملفوظ الذي سيتبع وجود الشيء في القصيدة. وهي تقترح انزياحاً دلالياً هذه المرة. إذ تأخذنا عبارات الإهداء إلى وظيفة شعرية للشيء، هي ليست وظيفته الحياتية بالضرورة.

التقسيم المقطعي يتباعد قليلاً ويتباين في مساحاته. والمفروض أنه يرتب إيقاعاً خاصاً بالقصائد. لكنه متباعد وربما نزع القارئ من ذاكرته هذه الهندسة المقطعية واندمج أفق قراءته بما يقرأ دون تحديد موقعه في خارطة الكتاب. لكن الإزاحات الدلالية تأخذ شكلاً بنائياً حين يصوغ الشاعر عبارته.

في ثنائية الأقفال والمفاتيح تستوقفنا الدلالة العميقة للترميز. هي محنة وجودية تثقل فكر الشاعر واختياراته في الحياة. يكتب ببساطة خادعة تبدأ من جملة قصيرة واضحة ومباشرة لكنها تتطور دلالياً بالنمو العضوي للقصيدة:

الحياة ثقيلة على الآدميين

لأن القفل والمفتاح

لا يجتمعان إلا نادراً

يتصافحان بالكاد

ويذهب كل منهما إلى سرير

القفل والمفتاح في قراءتي التأويلية وبتشجيع الدلالة هما: المعضلة والحل، أو السؤال وإجاباته الممكنة...او المستحيلة في محصلة القراءة. لا مفتاح لقفل. كلٌّ منهما ذاهب إلى قصد.

ويمكن قراءة نص آخر عن الجدار يأخذنا من جدار بيت إلى (جدران ) سجون. هذا التوسيع اللفظي يقابله توسيعان: دلالي يذهب لتقليب صور الجدران ودلالاتها، وإيقاعي يحيط بالقصيدة كما تحاصر الجدران المكان. هنا يبرز صوت الراوي من السجن: بآدميته التي جعلته يستبطن محنة أو سقوط سجّانه السجين!

مذعورة تقوم الجدران من نومها

..تدور الجدران حولي

ولا تقترب من لحمي

تنبح أحياناً

لكنها لا تهز أذيالها

..الآدمي شقيقي

وأنا الملاك الحارس

تغني الجدران كثيراً

ويسمعها السجناء

...حارس السجن سجين مثلي

لكن أكثر حظاً

...أمشي في زنزانة

 و حارس الزنزانة يمشي في قبر

زنزانتي دم فاسد يسيل خارجي ويضيع

وقبره دم فاسد يسيل داخله ويبقى.....

السرد في الديوان يخدم ويعمق شعرية القصيدة أي انتظامها النصي ومستوياتها .هنا أقفال متنوعة: أقفال احلام لاتجد مفاتيحها في اليقظة، وأخرى( تتذمر وتفر من الأبواب ، وتهرول في أمعاء الحيتان باحثة عن مفاتيحها)، وأخرى( صدئة تغالب الجذام..).تلك ميزات الأنسنة التي تحدثت عنها. والشاعر يسيّرها في القصائد؛ لأنه الراوي العليم و السارد غالباَ. وقد ينيب الاشياء ذاتها ليستبطن هواجسها، فيوغل في الخيال الذي يمنح شيئيتها أطيافاً وظلالاً شعرية. تقود السرد إلى إيهامٍ نلمحه ويفر من التعيّن ..إن غير المتوقع يأخذ مكان الواقع.

يرى الأم في ريفية نمطية من حيث الخارج الوصفي، لكنه ينتشلها بالخيال ليعطيها هذا الوجود الإنساني المؤثر، فتبدو ملاكاً تحيط بها هالة النور :

الأم تجلس بين طيورها المنزلية

وشمس حانية ترفرف حولها

وحين يحدق الشاعر في حلقة تدور حول قفل الباب ..يوهمنا أنها تتعرف القادم قبل ولوج الباب وعند المغادرة(الفراق).  ذاك ترميز للحياة ذاتها. فيكتب قصيدة قصيرة هي مثال لقصيدة نثر مكثفة  من سطرين:

حلقة حديدية في الباب

لا ترتجف إلا عند الوداع

وهي الحلقة التي تتناظر إيقاعياً مع حاقة مشابهة لها طالعتنا في أول أسطر الكتاب: نص صغير أيضاً بعنوان دال هو (خصّ الباب):

حلقة حديدية في الباب

لابد من خضِّها

قبل السلام على  سكّان البيوت

ولن يجد الباحث عن معنى تامٍ أيَّ شيء هنا. وعليه أن ينتظر لتطالعه الحلقة الحديدية ذاتها في مكان آخر وهي  ترتجف في حالة الوداع.

التنوع في هيئات النصوص طولاً اًو قصراً.. ألفةً وغرابة ، قرباً وبعداً، منحت الكتاب الشعري الإنطباعَ بأن الشاعر يتمثل الممكن في قصيدة النثر لغةً وإيقاعاتٍ ودلالات.لا يتنازل عن البساطة ولكن بتعميق معناها، والإرتقاء بها إلى ترميز ممكن يشاركه فيه القارئ.

أمشي وأنا واقف

وأمشي وأنا نائم

وأمشي وأنا أمشي

..كل لحظة مرور ووداع

كل خطوة

رمية نرد في شبر جديد

مشّاء ينحني كل فترة ويلتقط شيئاً

أين انتهى المصير بالظلال الأحد عشر التي هيأنا لها العنوان؟ إنها توزعت في فقرات التهمتها وأعادتها لأشيائها ،كما التهمت جدران السجن رؤى يوسف وأحلامه وصباه..

وإذا كانت قصيدة النثر بهذا الإمكان النصي وتعدد الأبنية وأشكالها، وهذا التصميم الهيكلي الواعي رغم أنه يترجم عن رؤى وتهيؤات واستيهام  ، فإن توقع المقاربات المبتكرة لا التقليدية سيظل قائماً ومشروعاً..






تم عمل هذا الموقع بواسطة