نصر جميل شعث يكتب حول مفهوم قصيدة النثر

نشرت جريدة "القدس العربي" بتاريخ 17 أيار (مايو) 2006، على أعتاب مؤتمر قصيدة النثر الذي أقيم في بيروت بتاريخ 19 آيار (مايو)2006..؛ نشرت الجريدة نماذج "قصائد نثر أوربية" كتبها ثلاث عشرة شاعراً عربياً؛ حسب ما جاء في مختارات الشاعر والمترجم العراقي عبد القادر الجنابي الذي كتب تقديماً بالخصوص؛ مشيراً بجهده للقارئ: "هذه قصيدة النثر المطلوبة!". 

وقد ختم تقديمه للنماذج بالقول: 

"لكن بالرغم من الفوضى في المصطلح العربي، وبحثاً عن الجديد، استطاع عدد من شعراء قصيدة النثر العربية، أن يكتب عن وعي أو بلا وعي، قصائد نثر وكأنه يريد أن تكون له حصّة شعرية على غرار النموذج الحقيقي: قصيدة النثر الأوربية..".


ولفت انتباهي أنّ تفريق الجنابي الذي جاء به، إعمالاً ليد وعين التخصّص، وحاجةً "للتبسيط"؛ يرسّخ مصطلحين جديدين يحلان كبديلين، غير دائمين، عن "قصيدة النثر" و"الشعر الحرّ". وهما: "قصيدة النثر على الطريقة الأوربية"، و"قصيدة النثر على الطريقة العربية".


بكلمات أخرى، هذا الفصل الميتافيزيقي العريض، لوهلة أولى، ما هو إلا إغلاق مؤقّت لملفات البون الشاسع بين "قصيدة النثر" الفرنسية و"الشعر الحر" الأنغلوسكسوني. وهل حقـاً اعتمد الجنابي على "المؤقت" لإيصال أحكام التخصّص. لا، فالمتابع للملفات المتخصّصة التي يقدمها، في "إيلاف" عن "قصيدة النثر" يقدّر سعيه الحثيث والدائم للكشف عن أمور دقيقة ضاعت في تعميم الكثير ممن كتبوا في أزمة قصيدة النثر. 


بعد أيام من تاريخ كتابة هذه المقالة، سار الشاعر الأردني أمجد ناصر على نفس الطريقة في التفرقة بين "قصيدة النثر العربية" و"قصيدة النثر الأوربية"، وذلك في مقاله المعنون بـ: "من يتذكر صلاح فائق"، (منشور في "القدس العربي"، عدد الجمعة بتاريخ 30 نوفمبر 2007)، بدوره، نقل محرّر الصفحة الثقافية في جريدة "إيلاف" الالكترونية الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي، في نفس اليوم، مقالة أمجد ناصر التي يقول فيها:

"فاجأ صلاح فائق الوسط الشعري العربي (الجديد) بعمله الأول (رهائن) الذي صدر في دمشق عام 1975. كان عملاً غير مسبوق في مدونة "قصيدة النثر العربية"، أقرب في كتلته، إلى "قصيدة النثر الأوروبية"، وفي أنفاسه إلى بقايا الإرث السريالي".


وهكذا، بقدر ما تستند تفرقة الشاعر أمجد ناصر إلى الدراية والتخصص بحركة تطور كتابة الشعر نثراً ، بقدر ما سيبدو الفصل والتحديد جاهزاً ومريحاً للذين ضلّوا سواء السبيل، وهم يكتبون عن الفروق بين قصيدة النثر والشعر الحر. ولن يكون صعباً، مع تسلّم المصطلح كشعار فقط، أن يكتب ضالّ أنّ شاعراً ما يكتب قصيدة النثر على الطريقة الغربية.


هذا التقديم السابق، إنما، كان يتوسّل الدخول من باب التخصص لقراءة نصّ للشاعر الراحل سركون بولص في مجموعته: "إذا كنت نائما في مركب نوح". يذكر أن عبد القادر الجنابي وضمْنَ مختاراته لثلاثة عشر شاعر؛ اختار قصيدة "إعدام صقر" – الواقعة في صفحة 135 من ديوان سركون المذكور- بوصفها قصيدة نثر على غرار النموذج الأوربي "الحقيقي".


وهناك في جزء مجموعة الشاعر بولص المعنون بـ: "دليل إلى مدينة محاصرة"، يوجد نصّ في الصفحة رقم 85، بعنوان : "الحانة المكسيكية(البلدة2)". إذ يمكننا أن نقرأ السطور الاولى الأحد عشر من هذا النصّ في ضوء: الإيجاز، الكثافة، اللاغرضية – شروط قصيدة النثر على الطريقة الأوربية. وهذه الشروط لا تعني الكف عن الاستطراد بطريقة مكثفة وبايقاع متحرر نقرأه، الآن، حتى عند كلمة "كمين". 

فلنقرأ، بعد اصطياد سطور قصيدة نثر من النصوص وحتى المقالات كما يحبّ أن يصطاد الجنابي:


في الأعلى حيث الكوة المنفردة يدخل منها النور وذات مرة،

لدهشتي، يدخل طائر ضائع بالخطأ مفكراً بأنها تقود إلى

الخارج وفيما بعد ظلّ يضرب بجناحيه جدران الغرفة مدة

ساعة دون أن يستطيع الخروج

قبل أن تنهض المرأة وشعرها الكثيف الأسود

يغطي ظهرها العاري وتحاول

أن تمسك به وهي تضحك

حين أمسكت به في النهاية وبعد أن أتعبته، بعد أن يئس،

بعد أن استسلم أتت به إليّ

بينما كنت أدخّن في السرير ووضعته في يدي المفتوحة وهو

يرفرف بين حين وآخر، أسيراً في كمين.


لكن، سيخرج النصّ من شروطه السابقة إلى الاستطراد والسرد والغرضية بمجرّد أن ينتقل سركون بولص إلى القول: "وقالت شيئاً بالأسبانية". فمن هذه النقطة وحتى نهاية نصّ: "الحانة المكسيكية"، أي ما يشكل أكثر من ثلثي النصّ، ينقطع، أو يترك، الشاعر اللحظة اللعبية. إذ يذهب سركون بولص، أو يقوده التفكير بطريقة تفتح شهية التحليل الفرويدي، أثناء كتابة النثر؛ إلى الغرضية عندما هو يُوظّف = يُرمّز "الطائر" توظيفاً = ترميزاً جنسيّا. بالضبط حين يكتب:


ولم أسلّم على الفتاة التي أخذت تبتسم وسحقت سيجارتَها

على الأرض، ثم رأت الطائر فأخذت تنظر إلى يدي كأنها

تتوقع أن أفلت الطائر في وجهها، أو أن أمرغه على شفتيها

الحمراوين كعضو جنسي مُريّش أو أن أجبرها على أكله حيّا

وحارّا كالرغيف.


حيث ينتقل بولص من لعبة الطائر العَرضية، في الغرفة، في بداية النصّ؛ إلى رغبة الترميز والدوران حول الجنس متمثلاً بالطائر الذي استقرّ رمزاً جنسيّا في متناول القارئ. وهنا نتذكّر، تحديداً، بعضَ تحليلات سيغموند فرويد للطائر بوصفه عضواً جنسيا مُريّشاً، وذلك في كتابه [ التحليل النفسي والفنّ، ترجمة: سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى: نيسان(أبريل)1975، ص27].. ففي فقرة كان تحدّث فيها ليوناردو دافنشي عن طيران النسر، مقاطعاً نفسه، فجأة، ليتتبع ذكرى من سنيِّ حياته المبكّرة جدّا، حيث طرأت على ذهنه، يقول: "يبدو أنه قد قدّر عليّ من قبلُ أن أشغل نفسي تماماً بالنسر، فإنه يطرأ على ذهني كذكرى قديمة جدّا، فحينما كنتُ لا أزال في المهد، هبَطَ عليّ نسرٌ، فتح فمي بذيله، وضربني عدّة مرات بذيله على شفتي". ولا ننسى أن نشير أنه في نصّ بعنوان’ المحظية’، في الصفحة 138، يستأنس سركون بولص بعبارة من مفكّرة ليوناردو دافنشي: (بمجرد التحديق في السقف، يمكنك أن ترى الكون). 


كذلك التذكير أنّ النصّ التالي لنصّ"الحانة المكسيكية" يحمل عنوان: "تركيب حلم"؛ الأمر الذي يساعد في تحليل وتفكيك غرضية بعض نصوص الشاعر ذات النثر الشعري المؤسّس على لغة الترميز. وهي لغة الاشتباك بين النثر الشعري والنثر القصصي، بما يشير إلى مرحلة داهمها الخلط بين القصة القصيرة التي كان يكتبها بولص والنثر الشعري، حيث مجموعة: "إذا كنت نائما في مركب نوح" تنطوي على تجريب الشاعر في المناخ الأنغلوسكسوني. وفي سياق غرضية الترميز عند سركون بولص، هناك نصّ بعنوان "مشهد باتجاه واحد"، نجده في الصفحة 130؛ إذ علينا أنّ نقرأ هذا النص القصير، ثم نعقد مقارنة لرؤية وجه الشبه والغرضية، بين "الطائر الأحمر" فيه، وبين مآل "الطائر كعضو جنسي مُـريّش" في نصّ "الغرفة المكسيكية".


بين القصبات المحطّمة طائرٌ أحمر

يجري أو يحلّق نحو نقطةٍ مجهولة

شيء ملفوفٌ على بكَرة

في يدي امرأة تنام بين الأشجار

إنها تحلم

بعد أن طردوا من عينيها الشياطين

وفي المثلّث المضاء بين ساقيها المفتوحتين

الخيط، ثانية، يحاول أن يدخل ثقب الإبرة

والذكر عكاز يطرح ظلّه عبر الصحراء.


هكذا مقترب لن يقتصر، لدى سركون بولص، على اعتبار الجنس لديه، عموماً، مركزاً؛ بل تتجاوز القصائد هذه الرغبة. وكم سينجح الشاعر بطردها أو عزلها من صلب الاهتمام والهمّ الذاتي والموضوعي. وسنلاحظ في قصائد أكثر تعقيداً أو تركيباً قدرة سركون بولص على الخروج من مركز الترميز إلى الشعر خلال التلاحق والتدفق الهائل للصور التي تمحو الترميز أو لا تسمح بالقبض على طائر بالسهولة السابقة. حيث تتوفر نصوص كثيرة على طاقة عظيمة ومختلفة عن القصّ أو النثر الشعري القائم على الترميز، فتدخل القارئ في دوران وجري مع الشاعر وليس مع رموزه الممحوة الآن. إننا، في أوقات، نقرأ سركون بولص كما لو كان يكتب قصيدة مدورة، لما لديه من قدرة على التدفق وإنتاج رموز متلاحقة وعصية على التكّشف، وتوحي أكثر ما تشير.

أرى أنه في كتابه: "إذا كنت نائماً في مركب نوح"، على الأقلّ، كونه كتبه في بداياته في أميركا، لم يظهر سركون بولص متحالفاً مع حدّة التنظير لقصيدة النثر، ولا وفيّا للتخصص ودقة المصطلح؛ بل إنه كتب آخذاً بالاعتبار أنه يكتب ذاته دونما قياسات محدّدة، في الخلفية. لذا نجده، أحياناً، يعوّم المسألة فنقرأ نصوصاً له من مناطق تعبيرية متعددة، وقد نقرأ نصّا واحداً يمكن تقسيمه نقديّا إلى أكثر من منطقة: قصيدة نثر، شعر نثري، سرد قصصي، وسرد مقالي، بمعنى الكلمة. فضلاً عن اشتمال ما سبق على غرضية التركيب وإنتاج الشاعر لرموزه بتأويلها؛ كما هو الحال مع "الطائر" الذي "يرفرف بين حين وآخر أسيراً في الكمين".


استدراك:

لم تكتب هذه المقالة بادعاء الانحياز لجهة رأي دون آخر. 

إنها نتاج تقليب في الآراء بحس دراسي. وعليه، فهي لا تدعي أكثر مما تقصد وتتوسل، وهو : مراجعة السجال دون إبداء الرفض السريع لجهة رأي ما من تلك الآراء المسجلة أعلاه.



تم عمل هذا الموقع بواسطة